الاثنين، 29 ديسمبر 2008

وحدي

أعشق الهدوء.... ليس الهدوء بالمفهوم الدارج عند الناس الذي لايزيد عن كونه عكس الصخب لا أكثر...أنا أعشق الهدوء القاتل...الصمت المطبق....الصمت الذي هو أشبه بالظلام الدامس في ليلة غاب عنها القمر...الهدوء الذي هو أشبه بمقبرة لم تسكن بعد....أعشق الهدوء.... أعشق الوحدة....أعشق الصمت....أعشق الظلام...أعشق نفسي....أعشقني....أعشق أنا...

*****

في طفولتي أعتقد أهلي و كل من حولي إنني طفل غير طبيعي... صامت أغلب الوقت...لا يتحدث مع أحد لا يلعب مع أقرانه من هم في مثل سنه...يجلس بالساعات في غرفته المظلمة المغلقة عليه دون أن يخرج سوى لتلبية نداء الطبيعة.... أنا نفسي لا أدري لماذا نشأت على هذه الطبيعة لكني في قرارة نفسي كنت أشعر بأنني أفضل... ذلك الشعور الممتع حينما تشعر بأنك غريب عن من حولك و مختلف عن كل أقرانك....زادت تلك الحالة بداخلي و تعمقت بجذور شخصيتي حتى صارت أنا و صرت أنا هي....

*****

بعد التخرج قررت أن استقل بحياتي....قررت أن أنفصل عن أهلي و أعيش وحدي في أي مكان بعيد و ناء....قررت أن الوقت قد حان لأستريح من المشاكل الأسرية البسيطة التي تعاني منها كل أسرة....قررت أن الساعة قد دقت لأستريح من صراع أخواتي الإناث عل كل ما هو تافه في الحياة....قررت أن الأجل قد حان لأستريح من كل صخب الحياة مع أشخاص لا ينتهوا من الصراخ حتى يبدأوه من جديد....نعم فبالنسبة لي لم يكن اهلي أكثر من مجرد أشخاص يشاركونني السكن حتى أستطيع أن استقل بحياتي....قررت أن أضع حدا للحياة المليئة بالضوضاء....أن أضع للصخب نهاية....ولم أكن اعلم أنها ستكون البداية....

*****

هل تزوجت؟!!!....ياله من سؤال....بالطبع لم أتزوج....فكرة الزواج بالنسبة لي ليست فكرة مرفوضة....إنها فكرة غير مطروحة من الأساس.... أنى لرجل لا يتحمل صوت أهله و يستغنى عنهم و يستقل بحياته أن يتزوج....أن يحضر شريكا مزعجا في سكنه....و يكون الشريك أمرأة....لا تكف أبدا عن الصراخ....تصرخ مطالبة بحقوقها المادية ....تصرخ مطالبة بمصروف البيت....تصرخ بمطالبة في حقها في المأكل....حقها في الملبس...حقها في التنزه....حقها في الفراش....حقها في الحب....ثم تصاب بالفمينيزم فتصرخ مطالبة بالمساواة و حقوقها المعنوية و حفظ المكانة....ثم يأتي الابن....فلا يفعل شئيا سوى الصراخ....يصرخ رضيعا مطالبا بالطعام....ثم يصرخ طفلا لأنه جرح في اللعب....ثم يصرخ صبيا لأنه تشاجر مع صديقه....ثم يصرخ مراهقا لأن حبيبته خانته....ثم يصرخ شابا لأنه يريد ان يتزوج و يبدأ حياته....و يصرخ و يصرخ و يصرخ و لا يبح له صوت...صدقني....التنازل عن كل هذا نعمة لا تقدر بأثمن اللالئ....نعمة الهدوء....وكان لي ما أردت...

*****

اخترتها بناية صغيرة في منطقة نائية تكاد تخلو من البشر....منطقة من تلك المناطق التي تقترب من الريف....كان المنزل يبعد عن العمران بمسافة معقولة جدا....عليك ان تقطع أكثر من خمس كيلو مترات سيرا حتى تصل إلى الطريق السريع أو أي مكان مأهول بالبشر...ثم تحصل من هناك على وسيلة مواصلات –إذا وجدتها- لتصل إلى وجهتك....لذا كان تقريبا كل سكان العقار يمتلكون سيارات خاصة...و كنت انا منهم...فلا تنس أن عائلتي ميسورة الحال....دعني أصف لك سريعا ساكني تلك العمارة... في الطابق الأول يسكن الأستاذ ملاك عبد الشهيد و هو موظف في مصلحة الضرائب العامة...يعيش بالطبع مع زوجته مارسيل المعلمة و ابنتيه ماريان و ساندي.... أسرة محترمة سعيدة لطيفي المعشر لم يشك أحد منهم قط.... أما الشقة المقابلة لهم فكانت لشركة تعمل في شئ ما و هي مغلقة منذ زمن.....في الطابق الثاني... شقتين...أسكن أحداهما و الأخرى ملك لطبيب يعمل بالخليج و يعيش هو و أسرته هناك و لم أرهم منذ قدمت إلى هنا....في الطابق الثالث و الأخير يسكن الأستاذ طه الشرقاوي و زوجته و هو موجه لغة عربيه متقاعد...تزوج أبناءه و رحلوا و لكنهم يزورونه هم و احفاده كل جمعه لا لشئ سوى ليحيلوا حياتي إلى جحيم بكل الصخب الذي يحدثونه....في الشقة المقابلة يسكن المهندس الشاب حلمي السيد....و هو شخص شاحب دائما تكاد تفقد صوابك هلعا حين تراه....يقال إنه المحكمة برأته من تهمة القتل العمد لزوجته لاعتبارها جريمة شرف....شئ طبيعي أن تقتل زوجتك حين تراها في فراشك مع غيرك.... يقال أيضا أنه مريض نفسي و يتلقى العلاج....أقاويل أقاويل.... لا يفعل الناس سوى نثر الشائعات لذا لا أهتم... الناس يحبون الصخب و أنا أمقته.... الناس يهتمون بالكلام و أنا لا أهتم...لكن ...ليتني اهتممت....

*****

أعتقد أن الأحداث بدأت منذ ثلاثة أشهر....لا أذكر اليوم على وجه التحديد لكن الأحداث بدأت و هذا يكفي....كنت غاديا من العمل في عصر ذلك اليوم حين وجدت سيارتي شرطة و ظباط و جنود و ضوضاء لا تحتمل.... و علمت من أحد الجيران أنهم وجدوا جثة عم سلامة البواب الصعيدي الطيب في غرفته مقتولا ...ثم مال علي و همس في خطورة: " لا أريد أن اثير رعبك...لكنهم وجدوا الجثة مقطوعة الرأس....و الأدهى أنهم لم يجدوا الرأس بجوار صاحبها....اختفت و كأنها تبخرت"....لا أكذبك القول...سرت في جسدي قشعريرة غريبة بعد هذه الكلمات....و لم لا؟...نحن في منطقة نائية و ما حدث لعم سلامة الطيب الشهم قد يحث لي أيضا.... لا أهتم بمصير الآخرين لكني أخاف على نفسي....و اتضح أن كل سكان البناية يفكرون مثلي....فاصدر الأستاذ ملاك قرار حظر التجوال على زوجته و بنتيه.... و لم يغادر المهندس المختل ولا الموجه المتقاعد شققهم لبضعة أيام....و كذلك أنا....لكن الشرطة طمأنتنا بأن عم سلامة الصعيدي الطيب الخدوم كان في الأصل هاربا من ثأر قديم في قريته الصعيدية البعيدة و أن مطارده عثر عليه و قتله و مثل بجثته و فصل الرأس و اختفائها أكبر دليل على الروح الانتقامية التي يتمتع بها القاتل....بالطبع صدقنا رجال الداخلية الأفاضل...صدقنا و عدنا لممارسة حياتنا بصورة طبيعية...و ليتنا ما صدقنا و ليتنا ما عدنا....

*****

وقعت الحادثة الثانية بعد الأولى بإسبوعين..... و كانت في إحدى أيام الجمع...إحدى جرعات التعذيب الإسبوعية التي يقدمها لنا أستاذ طه عن طريق دعوة أبنائه و أحفاده للغداء في هذا اليوم....يومها كان الأحفاد-و عددهم أربعة..بنتين و ولدين- في قمة عطائهم من الصخب حتى ظننت أنهم يتعاطوا المنشطات....لم يتركوا بابا لم يقرعوه ولا لوح زجاج إلا و كسروه....و في الساعة الرابعة عصرا سمعت طرقات الأطفال القوية على باب المهندس الشاحب....أي رجل متزن كان سيترك الأمر يمر...لكن من قال إنه متزن....لقد رأيته يفتح الباب....كان ثلاثة من الأطفال قد جروا و اختبئوا في مكان ما...لكنه عندما فتح الباب وجد سارة الطفلة الجميلة تقف و تنظر له في تحدي... رأيته ينظر لها نظرة نارية...أقسم أني رأيت الشرر يتطاير من عينيه....لكني لم أهتم بما سيفعله مع الفتاة...أي عقاب متاح فهي تستحقه هي و الشياطين الهاربين الثلاثة....أغلقت بابي و لم أتابع ما يحدث....

في تمام السادسة وجدت الاستاذ طه وابنه الدكتور علي يطرقون بابي... وحينما فتحت لاحظت وجومهم و لوعتهم....سألوني عن سارة و هل رأيتها أم لا....و علمت أنها مختفية منذ الرابعة و ان الأطفال لم يروها و بحثوا عنها ولم يجدوها....خرجت مع الرجال أبحث عن الطفلة ...كل منا يبحث في مكان بمفرده....بحثنا في كل مكان تقريبا.... في الحقل المجاور للمنزل....في الطريق الترابي الغير ممهد المؤدي إلى الطريق السريع....في بيوت الفلاحين البعيدة المجاورة ....في البئر القريبة التي لا يفعل الأطفال شيئا سوى الغرق بها.... لم نترك حجرا لم نبحث تحته...و النتيجة لا شئ....لكن حين عودتنا كان الهول في انتظارنا.....

*****

حينما عدنا كان الظلام قد توغل... ولكن من مسافة معقولة شاهدنا جسد ملقى على أرض مدخل العمارة ...و على الضوء الخافت للمدخل ميزنا إنها الفتاة نفسها...ميزنا انها سارة لكن مع تغير طفيف في هيئتها... نعم فقد كانت بلا رأس يا صديقي....

لن أصف لك مشاهج اللوعة و الحزن والغضب و الجنون التي أحدثها الجد و الأب و العم و بقية العائلة....فهي أمور معروفة سلفا....لم أسيطر على الرجفات المتتالية التي أصابت جسدي و لا قشعريرة الرعب التي مرت بمؤخرة عنقي و أبت أن تتركه....ماذا فعلت تلك الزهرة اليانعة لتقطف بمثل هذه القسوة.... و تذكرت المهندس المجنون....نعم فهو لم يخرج و يبحث معنا و أحدا لم يدعه للمشاركة لأنه أساسا غير لطيف المعشر... ساورتني الشكوك...هل هو من فعلها.... أم من قتل عم سلامة هو من قتل الطفلة....هل هو من قتل عم سلامة من البداية و ضللتنا الشرطة.... تساؤلات كثيرة دارت برأسي لكني نحيتها جانبا.... إنه وقت المواساة ليس وقت الشكوك...ألست محقا؟....

*****

حينما وقعت الحادثة التالية كان الأمر قد فاق الحد....بعد أسبوعين من مقتل سارة و فشل الشرطة هذه المرة في العثور على القاتل و بعد فرض حظر التجوال من قبل سكان العقار....عثر على الأستاذ ملاك مقتولا بنفس الطريقة.... عثر الأستاذ طه على الجثة و هو عائد من صلاة الفجر من المسجد القريب... و لم يتمالك نفسه من الصراخ.... جن جنون السكان جميعا....حينما تنتظر دورك في الموت لا أعتقد أنه وضع يسمح بالتعقل.... و من ثم فرضت الشرطة سياجا أمنيا -مكون من ثلاثة جنود نائمين أغلب الوقت –لحماية السكان .... بالنسبة للمهندس لم أجد داعيا لأشك فيه هذه المرة.... لقد وجدته يبكي حزنا على الأستاذ ملاك في جنازته...نعم فقد كان رجلا فاضلا.... أعساه يبكي ملاكا...أم يبكي من عذاب الضمير....

*****

كانت ليلة سوداء ..ليلة غاب عنها القمر....حينما سمعت طرقات الباب بعد منتصف الليل بساعة....حينما فتحت متوجسا وجدته أمامي.... يبتسم ابتسامة كريهة...من؟.... المهندس الشاحب طبعا.... لم أشعر بنفسي إلا و أنا أقول له:" ابتعد عني أيها القاتل المختل"....ضحك ضحكة مقيتة ثم قال:" أنا قاتل....أنت عبقري يا صديقي ... و أنا أحب العباقرة".... و دخل .... و في تمام الواحدة و الربع صباحا كانت الصرخة المكتومة و انتهى كل شئ....

*****

كان الأمر واضحا للجميع....استسلمت في سهولة و لم أقاوم.... حينما تجد الشرطة بحوزتك رؤوس آدمية هو أمر يصعب تفسيره...ألا تتفق معي؟!!!!.....

***************

مش عارف هتعجبكوا ولا لأ...بس حبيت شوية اخرج من إطار القصص الاجتماعية و اعمل حاجه زي دي....بس راجع للاجتماعي تاني ان شاء الله... و برضه القصه دي نزلت لأني غبت فترة طويله من غير كتابه و القصه ملهاش مغزى لان مش لازم كل القصص يبقى لها مغزى....

كل سنه و انتم طيبين.... وسنه سعيدة عليكوا يا رب....

رامي سعيد

الخميس، 27 نوفمبر 2008

استدعاء



بملامح غاضبة اجتاز الطبيب الكبير دكتور "ابراهيم الشيخ" أبواب مستشفاه الاستثماري الفخم... كان غضبه واضح و كان أمر مفهوم للجميع... هو لا يرحب أبدا بالاستدعاءات الليلية... و يرى أنه على أي طبيب يوجد في مشفاه أن يبذل قصارى جهده لإنقاذ أي حالة مهما كانت خطورتها دون العودة إليه... و كان دائما ما يختم محاضرته لهم بقوله :-" أمال بدفعلكم فلوس على إيه...عشان تصحوني كل يوم بالليل و اجي اعالج لكم الحالات!!".... دائما ما كان يذكر انه لم يصل لتلك المكانة من فراغ... لم يحقق الثراء من العدم...لقد تعب و اجتهد و تذلل و كافح و و و و ....حتى يصل إلى لقب الطبيب الكبير... لذا كان غضبه واضحا للجميع.... توعد الفريق النوبتجي من الأطباء بجزاء ضخم لو لم تكن الحالة- التي استدعوه بسببها في الرابعة فجرا – تستحق... قابله أحد الأطباء الشبان بوجه ممتقع و قال له:-"سيدي..حمدا لله أنك استجبت... أن الحالة خطيرة بالفعل و.."....قاطعه د/إبراهيم في صرامة:-" أرجو أن تكون حالة تستحق"...لم يرد الطبيب الشاب بل خفض وجهه و لم يجد ما يرد به....بادره د/إبراهيم قائلا في حزم :-" ما الحالة؟!"...تردد الطبيب الشاب قبل أن يجيب:-" إنه...إنه مصاب في حادث سيارة"...ثم أردف في سرعة:-"لكنه مصاب بشدة يا سيدي....أخشى أنه فات أوان الإنقاذ"....لاحظ د/إبراهيم الوجوه الممتقعة من أطباء و ممرضات و عاملي المستشفي تنظر إليه في رعب.... ابتسم في سره...لكم هو مهيب!!..لكم هو جبار!!.... حينما وصل الاثنان إلى غرفة الطوارئ حيث لا يزال المصاب مستقرا فتح الطبيب الشاب الباب....نظرة واحدة كانت كفيلة بأن يتغير كل شئ....بالنسبة للعاملين في المستشفى لم يكن ذلك المصاب سوى المصاب في حادث....لكن بالنسبة له لم يكن هذا المصاب سوى ابنه.....هنا فقط علم د/ ابراهيم أن الحالة تستحق...

************

تنويه:- معلش يا جماعه القصه المرده دي قصيره اوي....للأسف انا مكنتش عايز كده....انا عامل مجموعة قصص قصيره اوي من نفس القطعيه بس كنت ناوي انزل اربعه او خمسه في البوست الواحد مع بعض...لكن نظرا للظروف المرضيه الشديده و اللي معاها مش عارف اطلع صوتي حتى... ويتزامن مع ذلك ارهاق شديد عشان انا ملتزم اوي –بحيلتها- و اروح مستشفى الاطفال في صيدناوي كل يوم و كمان اروح عملي الباطنه و انا تعبان كده....فالحمد لله انه اداني القدره اني اكتب الحدوته دي كمبيوتر و قلت انزلها عشان انتو وحشتوني و بقالي كتير منزلتش...بس قريب ان شاء الله لما اخف هنفذ الفكره اللي قلت عليها دي....حتى كنت هسميها قصاصات او مثلا استدعاء و قصص اخرى...على هذا النسق يعني...لكن هي فعلا للأسف قصيره جدا ..قصاصة يعني... وانا ممكن ان شاء الله اضمها للمجموعه لما اكتبهم كلهم وورد و انزلهم مره واحده ان شاء الله...

شكرا لكم و دمتم بكل خير........

الأحد، 2 نوفمبر 2008

Interview


في تمام السادسة صباحا انطلق المنبه في الرنين .... بصعوبة فتح عصام عينيه...تنهد من الأعماق ثم اسكت الجرس المزعج قبل أن يعتدل في الفراش....أخذ يفكر قليلا....اليوم موعد المقابلة المهمة لاختيار موظفين جدد..او كما يحلو لهم تسميته ((interview))....بالنسبة لعصام لم تكن تلك المقابلة هي الأولى له....لكنه أخفق في الكثير من قبلها و اليوم يطمح إلى أن يذوق حلاوة النجاح للمرة الأولى.... يطمع أن يكون مسئولا عن نفسه....يحلم بمستقبل مشرق و أوضاع أفضل....يتأوه بقوة ثم ينهض متجها إلى دورة المياه للاغتسال و لأعداد نفسه للمقابلة المرتقبة...
*****
نترك عصام لحمامه و نتجول بعدستنا في حجرته الصغيرة....حجرة عادية جدا مثل كل الحجرات في بيوت الطبقة دون المتوسطة....و الطبقة دون المتوسطة هي طبقة مستحدثة لا وجود لها في العالم سوى في بلدنا.... هي تلك الطبقة الواقعة بين الطبقة المتوسطة و الطبقة الدنيا... هي تلك الطبقة التي لا تجوع لكنها لا تعرف معنى الشبع.... هي تلك الطبقة التي لا تعرى لكنها لا تعرف جودة الملبس....نعود إلى الحجرة.... في جانب الحجرة سرير خشبي قديم تآكل الخشب عند الأطراف.... هناك دولاب عتيق من ذلك الطراز الذي توضع فوقه المراتب القديمة والملابس البالية و حقائب السفر التي لا تستعمل قط.... يوجد مكتب يبدو عليه الحداثة بعض الشئ...على المكتب لفافة بها بقايا طعام و كوب من الشاي....على المكتب أيضا يوجد تقويم لم تنزع منه ورقة واحدة منذ شهرين....على الحائط نرى العديد من الملصقات....نجد ملصقا لعمرو خالد مجاورا لملصق لبريتني سبيرز.....ملصقا لجيفارا و إلى جواره ملصقا لهتلر....ملصقا به بعض الأدعية و آخر به كلمات لأغنية رومانسية.... باختصار حائط يحمل أعتى معاني التناقض و التضاد...أنى له أن يحب كلام عمرو خالد و يتقرب به إلى الله و في نفس الوقت يشاهد إباحية و ابتذال الأخت بريتني....و أنى له أن يستمتع بالأدعية الإيمانية و في ذات الوقت يعشق الأغاني.... و كيف له أن يحب جيفارا و يعجب بنضاله في سبيل الاستقلال و حرية الأمم و في نفس اللحظة يعجب بهتلر و فلسفته في الاستعمار و تقييد الحريات....رمز للتناقض الذي يعيشه شبابنا المغيب....نعود بعدستنا لعصام الذي يدخل الغرفة الآن و هو يجفف نفسه بالمنشفة...يفتح الدولاب و يخرج الحلة الرمادية الوحيدة التي يمتلكها و لا يرتديها سوى لتلك المقابلات....يرتدي الحلة و يصفف شعره بعناية و يتعطر بذلك العطر الفخم الذي أهداه له خاله العامل بالخليج و الذي يحتفظ به خصيصا لتلك المناسبات....يقف أمام المرآة ليتأكد من أناقته... فجأة يرن جرس هاتفه الشخصي...كان المتصل صديقه محمود...سأله محمود عن موعد المقابلة لتلك الشركة لكن عصاما أنكر...و أخره أنه لا يعلم موعد المقابلة و أنه بالتالي لن يذهب إلى أي مكان و أنهى المكالمة....كذب عصام على صديقه الصدوق.... كان يرغب بشدة في تلك الوظيفة و يأبى أن ينازعه أحد عليها فقرر أن يذهب وحده و يجازف بتلك الصداقة...نعم فالوظيفة بالنسبة له أهم....الصداقة تموت و الوظيفة تبقى....
*****
في الشارع اتخذ عصام قراره بأن يحافظ على تلك الأناقة بما يملك من جنيهات قليلة فقرر أن يتنازل و يضحي ويستقل سيارة أجرة بدل الحافلة العامة....في الطريق شرع يردد الأدعية و الآيات القرآنية عسى الله يوفقه في تلك المرة...من أجل أمه و أخوته و من أجل مساعدة أبيه....
*****
لم يكن مقر الشركة مزدحما كما تصور...لم يتقدم للوظيفة سوى أربعة غيره....حمد الله في سره أن المنافسة لن تكون شرسة و رجى الله ألا تتطلب تلك الوظيفة شهادة خبرة فهو لم يعمل قبل ذلك ولا يمتلك شهادات خبرة سابقة.... جلس عصام يتنظر دوره .... وجد أن هاتفه يرن في إلحاح...كان محمود هو المتصل....لم يرد عصام و ترك الهاتف يرن لأكثر من خمس مرات حتى مل محمود من المحاولة.... جاء دور عصام و في المقابلة بدى له أن الممتحن و هو مدير الشركة لم يكن مقتنعا به تماما خاصة بعد أن رأى سيرته الشخصية المتواضعة ((c.v))....شعر عصام أن المدير لا يهتم بما يقوله و أحس بالرجل ينتظر نهاية المقابلة بفارغ الصبر....علم أنه أخفق كالعادة....لكن المدير فاجأه قائلا في برود:-"مبروك يا أستاذ...لقد نجحت...نحن في الأصل نحتاج خمسة موظفين و لما لم يأتي سوى خمستكم فقررنا تعيينكم جميعا....ستمضون العقود الآن لتدخلوا البرنامج التدريبي الوظيفي من الغد"...لم يصدق عصام أذنيه...هو أخيرا نجح...بل سيوقع العقد الآن....سعادة بالغة لا يمكنه وصفها.... و عند توقيع العقد لم يهتم كثيرا ببنوده...نعم ستكون الوظيفة في سوهاج لكن ما المشكلة..بلد مثل كل بلاد الله....مرتب الخمسمائة جنيه لم يكن بالسيئ...أمر مقبول جدا كبداية خاصة مع وعود المدير بالزيادات.... الشرط الجزائي بألا يترك الشركة إلا بعد مرور عام كامل على استلام الوظيفة و إلا فليدفع مبلغ عشرة الآف جنيه....لم يهتم بهذا الشرط كثيرا ...نعم هو لا يملك مثل هذا المبلغ و لا يقدر أبدا على دفعه...لكن من قال أنه سيرحل عن تلك الشركة....سيعمل بها طوال عمره....أنها أول من منحه فرصة عمل حقيقية....وقع عصام العقد و خرج من الشركة يكاد يطير فرحا...
*****
خرج من الشركة وهو يفكر في رد فعل أهله و كيف ستكون فرحتهم.... بالنسبة لمحمود سيقنعه أنها وظيفة تلقاها عن طريق بعض المعارف و سيحافظ على صداقتهم...رن الهاتف مرة أخرى...كان محمود هو المتصل...قرر أن يرد و يخبر صديقه بهذا الخبر السعيد...مجرد أن فتح الهاتف و لم يقل سوى ((ألو))...سمع محمود يقول له في انفعال سعيد:-" عصام...لماذا لم ترد....اتصلت بك كثيرا....لا عليك...لدي لك مفاجأة رائعة....استطاع أبي بعلاقاته أن يوفر لنا وظيفتين رائعتين في شركة رائعة....العمل في القاهرة و المرتب ثلاثة الآف جنيه.... يجب أن تجهز أوراقك لأن آخر موعد للاستلام بعد أسبوع و إلا ضاعت الفرصة و طار العصفور من العش...مفاجأة رائعة...أليس كذلك...هيه..عصام لماذا لاترد....عصام...عصاااام"

السبت، 25 أكتوبر 2008

كريشيندو


بصعوبة يفتح عينيه.... يتثاءب مليا ثم يتأوه في فراشه الوثير.... ينظر إلى المنبه بجواره فيجد أن الظهيرة قد اقتربت.... يتأوه مرة أخرى ثم ينهض بخطى متثاقلة من على الفراش.... يمشي ببطء نحو الرزنامة المعلقة على الحائط...ينزع ورقة التقويم الدالة على الأمس ليكشف عن يوم جديد يضاف إلى عمره.... ينظر إلى التاريخ.... لم يكن بالنسبة له تاريخا اعتياديا....إنه الحادي عشر من يوليو...يوم مولده.... ها هو يستقبل عام شخصي جديد.... اليوم يتم عامه السبعين من العمر....كما أنه أيضا يتم عامه الخامس و الأربعين من الهجرة....خمسة و أربعون عام مروا عليه منذ أن هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية....ياله من عمر....يمسك بورقة التقويم القديمة و يلقها في إهمال.... يتوجه ببطء إلى المطبخ..... يعد لنفسه بعضا من القهوة...تلك القهوة الأمريكية منزوعة الكافيين التي يعتبرها كل عربي مياه ساخنة لا أكثر.... يحمل كوب القهوة في يده...يتوجه إلى حديقة قصره الفخم....يجلس أمام حوض السباحة الفاخر....يساءل نفسه...كيف تعاقبت عليه كل تلك السنون في هذا البلد....كيف عاش بدون أهله كل تلك المدة....رشف رشفة أولى من القهوة و شرع يسترجع الذكريات....
*****
اسمه كريم المصري.... والده أستاذ صلاح المصري....قد يوحي اسمه بالعظمة لكنه لم يكن سوى موظف بسيط لا يملك من الدنيا سوى أسرته و مرتبه الذي الكاد يكفي متطلبات تلك الأسرة.... نشأة كريم لم تكن نشأة يسيرة و لم يكن طفلا مدللا....هو الابن الثاني بين أربعة ابناء.... ثلاث أولاد و بنت.... فبطبيعة الحال لم يأخذ حظه من التدليل....الابن الأكبر هشام كان يحظي بكل الاهتمام باعتباره الابن البكري...كل طلباته تجاب....الابنة الثالثة هي ياسمين و هي البنت الوحيدة فحظت بكل تدليل وكل أوامرها تنفذ....الابن الأصغر هو حازم فحظي بكل رعاية باعتباره آخر العنقود و كل أحلامه تتحقق.... أما هو فلم يكن سوى ابن من الأبناء....لم يكن له موقعا مميز في الترتيب فوجد نفسه في وضع لا يحسد عليه....لكن هذه التفرقة في المعاملة لم تمر مرور الكرام بل تركت في نفسه أثرا لا يمحى من المشكلات والعقد النفسية مما أثر على علاقته بأهله فنشأ حانقا حاقدا غاضبا كارها.... لكنه في النهاية نشأ....
*****
لم تكن فترة مراهقته من الفترات السعيدة.... فمع خطواته الأولى في المرحلة الثانوية توفي والده فجأة....توفي عائل الأسرة الوحيد.... على الرغم من غضبه الشديد من والده لتفرقته الواضحة إلا أنه كان شديد التعلق به....كان يحبه و يوقره و يعتبره مثله الأعلى....لذا كان لوفاته أسوأ الأثر في نفسه....ترك وفاته ندبة لا يمحوها الزمن في نفس كريم.... عاش مراهقة كئيبة.... فلا أب ولا أصدقاء و لا حبيبة.... كانت أيام دراسته الثانوية من أسوأ أيام عمره....لكن الحال لم يتحسن مع دخوله الجامعة... في تلك الفترة كان أخوه الأكبر هشام قد ترك الدراسة و خرج للعمل كي يعول إخوته و أمه....كان ينفق عليهم و كان نعم الابن البار بأهله.... ألحق كريم بالجامعة و رفض تماما أن يترك كريم دراسته و يخرج للعمل ..مع أن كريم لم يعرض أساسا أن يعولهم...لكن هشام كان نعم الأخ بحق...
*****
كانت تلك الفترة من أكثر فترات حياته استقرارا.... ولكن كالهدوء يسبق العاصفة...و كالجزر يسبق المد.... حدثت الفاجعة التي غيرت حياته.... حينما تلقوا خبر مصرع أخيه هشام في حادث....كارثة بكل المقاييس... كارثة فقدان الابن...كارثة خسارة الأخ.... كارثة ضياع العائل.... كارثة غيرت حياة تلك الأسرة التي لم تعد تعرف للفرح طعما.... هكذا وجد كريم نفسه في مهب الريح....صار فجأة هو المسئول الأول عن تلك الأسرة....صار مطالبا بعلاج أمه المريضة....صار مطالبا بأن ينفق على تعليم حازم.... صار مطالبا بالمساعدة في تزويج ياسمين.... صار مطالبا بكل ذلك إلى جوار الإنفاق على دراسته....هو الشخص المنزوي دوما و الذي لا يعلم عنه أحد شيئا ولم يطلب منه احد شيئا صار يحمل كل تلك المسؤوليات على عاتقه...أنى له أن يتحمل كل هذا....كيف يقوم بما لا طاقة له به....خنقته المسؤوليات و حطمته المشاكل....ففكر في آخر حل أمامه...فكر في الهجرة....
*****
لم يمضي سوى شهران على قراره بالهجرة حتى هاجر بالفعل إلى الولايات المتحدة....هاجر سرا و سافر كالهارب....وترك لأهله رسالة يوضح لهم فيها كل شئ....هاجر و قد قرر أن يصنع نفسه و يعود سريعا لتحقيق ذاته في موطنه....لكن أمريكا لم تكن أبدا أرض الأحلام كما تخيل....لم يكن يحمل مؤهلا عاليا فهو قد ترك الجامعة و سافر....لم يوفق في الحصول على عمل....صار يجوب الطرقات ويفترش الأرصفة....يأكل النفايات و يعيش كالقطط الضالة.... كان يجلس إلى جوار المتسولين الذين يعزفون عزفا رديئا لألحان شتراوس و موسيقى شوبان.... كان يتسول....صادق المجرمين....احتمى بهم من شرور المجتمع....لا ينسى أبدا يوم أن هاجمت الشرطة معقلهم.... يومها قبض عليه و لم يكن قد ارتكب أية تهمة سوى أنه يقيم معهم وهذا يكفي....عربي و يقيم مع اللصوص ماذا ينتظر الأمريكيون للزج به في معتقلاتهم....هكذا وجد نفسه سجينا في بلد غريب لا يعرف حتى لغته....شعر بالضياع...عاني من الانهيار....
*****
في السجن تعلم كريم الكثير و الكثير....و بالفعل رب ضارة نافعة.... تصادق مع رجل أعمال أمريكي سجن في قضية تهريب و كان يقضي أعوامه الأخيرة في الاعتقال....عطف عليه هذا الرجل و بمجرد خروجهما للحرية صار موظفا عنده....ترقى في المناصب حتى صار مساعدا شخصيا لهذا الرجل....صارت ظروفه أفضل بما لا يقاس....امتلك منزلا وسيارة كما أنه تزوج من امريكية حسناء و انجب ولدا و بنتا أسماهما هشام و منى تيمنا باسمي اخيه و أمه....بالفعل صارت حياته أفضل لكن أكثر ما كان ينغص عليه حياته و يؤرق منامه و يقض مضجعه هو أهله...لكم اشتاق إليهم لكن حبال الود قد قطعت للأبد....لا ينس كيف أنه حينما اتصل بأمه أخبرته أنها لم تنجب من يدعى كريم و أن ولدها كريم قد مات و أغلقت الخط في وجهه....كلما حاول محادثتها يتكرر نفس الشئ....حتى أخوته انكروه....عبثا حاول إقناعهم بأن ظروفه صارت أفضل و أنه يسير على درب الثراء لكنهم لم يهتموا و فضلوا قطيعته....
*****
صار كريم رجل أعمال ناجح....بدأ بمطعم صغير عمل فيه بكل جهد ممكن و بفضل توفيق الله ثم بمجهوداته صار المطعم أكبر ثم صار المطعم سلسلة مطاعم و صار من كبار رجال الأعمال العرب في الغرب....
*****
رشف رشفة أخيرة من كوب القهوة ثم أطلق زفرة حارة من الأعماق.... و قد أيقن بداخله أنه ربما قد كسب الملايين لكنه خسر أمه و أخوته.... ربما قد كسب الثروة و الجاه لكنه قد خسر نفسه.... أطلق زفرة اخرى و قد تأكد أن حياته لم تكن سوى سلسلة من الأحداث المتصاعدة....لم تكن سوى متتابعة من الأمواج المتلاطمة.....لم تكن سوى كريشيندو....

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2008

الكابوس


لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يستيقظ فيها مدحت مفزوعا غارقا في العرق البارد.... هو على هذه الحال منذ حوالي الشهرين.... تقريبا لم يعد ينام.... لم يعد يهتم بمظهره.... ردود أفعاله صارت أبطأ.... اهتمامه بعمله قد قل.... أنه بالفعل يعاني....الكوابيس تهاجمه كل ليلة.... كل ليلة كابوس جديد يختلف عن سابقه.... كل ليلة يستيقظ قرب الفجر مفزوعا مختنقا مجهدا كأنما كان في ميدان للقتال.... كل ليلة تحترق فيها أعصابه بكابوس جديد و فزع متجدد.... كل ليلة يعاني...
*****
مدحت صديق لي منذ أيام الدراسة البعيدة.... كنا جيرانا... و منذ أمد بعيد و كلانا يعلم أنه النصف الآخر للآخر.... حتى بعد الدراسة الثانوية التحقنا بنفس الكلية....درسنا الصيدلة و منذ خمس سنوات التحقنا بالعمل في نفس الشركة....علاقة روحية لا تنفصم نشأت بيننا منذ المهد و ستسمر حتى اللحد.... أصدقاء طفولة و زملاء عمل...هذه هي علاقتنا.... لكن مدحت دائما ما كان يخفي الكثير عني....فلم يحكي لي شيئا عن تلك الكوابيس التي تراوده كل ليلة....لكن بعد أن فاض به الكيل قرر الاستعانة بشخصي.....
*****
كانت عقارب الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحا بقليل حينما استيقظت على رنين الهاتف الملح.... حينما أجبت وجدت مدحت هو المتصل.... أخبرني أنه بحاجة إلى طبيب نفسي.... اندهشت بشدة.... مدحت إنسان متزن إلى أقصى حد....لكنه أخبرني في اقتضاب أنه يعاني و بشدة من الكوابيس اليومية.... وأن الحياة صارت لا تحتمل.... استعانته بي كانت مبررة لأني أساسا أعمل في الدعاية على بعض أدوية الأمراض النفسية ((psychatric ))....لذا اقترحت عليه اسم الدكتور حسين المراغي أحد أشهر أساتذة الطب النفسي في مصر و الذي تربطني به علاقة قوية بالفعل.... وافق مدحت على الفور و وكلني بأن أحدد له موعدا عنده.... و أنهى المكالمة و ذهب ليستمتع بكابوس آخر....
*****
كان الموعد في التاسعة مساء.... بحكم علاقتي الوطيدة ب د/حسين استطعت أن أحصل على موعد سريعا.... في الثامنة والنصف كنت أقل مدحت بسيارتي....كان مدحت قد طلب مني أن أحضر معه هذه الجلسة لسبب لا أعرفه.... ونحن في الطريق تجاذبنا أطراف الحديث.... كنت احاول أن أشجعه على خوض التجربة... أخبرته أن الشفاء من هذه الكوابيس والهواجس سهل إن شاء الله.... شرد مدحت بذهنه قليلا و بادرني قائلا :-" هل تقتنع بالطب النفسي؟!!"....قبل أن أجيب وجدته يكمل حديثه قائلا:- " أنا لا اؤمن به...اعتقد أنه دربا من دروب الشعوذة...هو دجل علمي إن صح التعبير....ماذا يفعل الطبيب النفسي أكثر مما يفعله المشعوذ....يستمع إليك في ملل و أنت تحكي في ملل قصة مملة سمعها ألف مرة و يسجلها على جهاز تسجيل ملول بطبعه ثم يكتب لك دواء تقليدي ممل و يودعك بابتسامة مملة و ينتظرك لجلسة أخرى من الملل.... ليس أكثر....الفارق بينه و بين الدجال...أن الأول يعطيك دواءا كيميائيا بينما يوصيك الأخير بعلاج روحي.... سلسلة من النصب لا تنتهي يا صديقي".....استمعت إليه و سكت لبرهة و أنا أفكر في مدى سوء حالة مدحت قبل أن أقول:- " هل تحب أن نعود أدراجنا؟!!"... اجابني في سأم :-" دعنا ننهي تلك المهمة....لا تنفع و لا تضر".... لا أعرف ما الذي أغضبني....كلامه سبب لي الغيظ...ما دام غير مقتنع بالطب النفسي لم طلب الاستشارة... ولم ورطني مع صديقي الطبيب المرموق....وجدت نفسي أقول له في حكمة غاضبة:- "اسمع يا مدحت.... الطب النفسي فرع محترم جدا من فروع الطب... أنت شخص لا تعترف سوى بالمادة بينما الطب النفسي لا يتعامل معها...لكنه يتعامل مع ثوابت و له علماء أجلاء أفنوا عمرهم في دراسته.... أمثالك لا ينجح معهم العلاج النفسي لثلاثة أسباب...أولا..يدفعهم غرورهم الشخصي إلى التفكير بأنهم شخصيات غامضة يجب أن يستعصي فهمها على البشر....ثانيا...يعامل الطبيب كعدو له فلا يخبره بكامل أعراضه و يحاول تضليله....ثالثا.... من أهم سبل نجاح العلاج الاقتناع به و الحصول على الإيحاء و الطاقة الإيجابية المنبعثة منه...و طالما أنت غير مؤمن به بل و تكرهه فلن ينجح العلاج معك."....ثم صمت لالتقط أنفاسي....دهش مدحت لفترة ثم غمغم بكلمات لم أفهمها ثم آثر الصمت....
*****
كان د/حسين معترضا على حضوري للجلسة لكن مدحت كان مصرا... فاضطررت للحضور و للعلم لم اكن مهتما بما أسمع....أخذ مدحت يقص على د/حسين كل ما مر به من كوابيس.... حكى له كم من مرة يرى شخصا يحاول أن يطير عنقه بسيف.... حكى له عن شخص يحفر له شركا.... حكى له عن شخص يطعنه من الخلف....حكى له عن شخص يدفعه من فوق الجبل....تنهد مدحت و أطلق زفرة حارة ثم قال في اسى:-" لقد تعبت يا دكتور.... صرت انتظر كل ليلة مشهد موت جديد يضاف إلى ذاكرتي...أية حياة هذه.....لكن كل هذا في كفة و الكابوس الأخير في كفة أخرى"....بدا الاهتمام على وجه د/حسين و ناشده بأن يقص عليه هذا الكابوس...قال مدحت في هم واضح:-" رأيتني أمشي في شارع كئيب مقفر...ثم رأيت جوادا هائجا غاضبا...لا يستطيع صاحبه السيطرة عليه....و طفق الجواد يحطم السيارات و يصيب المارة فخشيت أن يصيبني....اختبأت في مدخل إحدى البنايات في انتظار مرور الجواد....لكني وجدت الجواد يدخل إلى المبني و وراءه عشرون شخص يحاولون السيطرة عليه....لكن من الواضح أنني أنا وجهته....فوجدت نفسي أصعد درجات السلم في سرعة لكني شعرت بيد تمسك بي بقوة و تحاول أن تجذبني لأسفل و تقدمني للجواد....نظرت فوجدته شخصا أعرفه...بالمناسبة هو نفس الشخص الذي يحاول قتلي كل ليلة.... وسمعته يصرخ في الجواد ويقول هلم اقترب...هذه ضحيتك....هذه فريستك...ثم استيقظت فزعا.."..... صمتنا لفترة ثم ابتسم الطبيب مشجعا و أخبره ألا يقلق و ستكون الأمور على ما يرام....
*****
لحظات و رن هاتف مدحت فاعتذر لنا و قام ليرد.... تحدث معي د/حسين و قال:-" هل له أعداء ما...في الحياة ..في العمل...شئ من هذا القبيل؟"...أجبته في ثقة:-" مدحت شخص محترم و مثقف و محبوب من الجميع....لا أعداء له"...ثم فكرت قليلا ثم قلت:-" لكن في الفترة الأخيرة اختارت الشركة ثلاثة من موظفيها المخلصين و رشحتهم للترقية...و قد كان الثلاثة هم أنا و مدحت و زميل ثالث لنا مكروه من الجميع يدعى أسامة....و ذلك باعتبار أننا القياديم في هذه الشركة و أحدنا الأحق بالترقية....لكني بالفعل أعتقد أن أسامة يكيد لكلانا... وبالأخص مدحت لأن خلافا قد نشب بينهما منذ فترة و حبال الود مقطوعة حاليا....اعتقد بالفعل أن أسامة يكيد لمدحت خاصة انه أكفأنا و أقربنا للترقية"....ثم ملت على أذن الطبيب و قلت هامسا كعادة من يخبر سرا أو يحذر أمرا :- " لا يجب أن أؤكد عليك أن هذا الأمر يجب أن يبقى سرا....لو علم أسامة أن مدحت يعالج عندك سيستغل هذه النقطة و يقصي مدحت من الترقية ويحصل هو عليها"....ابتسم د/حسين و أكد أن القسم الذي أقسمه منذ أربعين عام يحتم عليه ذلك....عاد مدحت فصمتنا للحظة ثم بادره د /حسين سائلا :- " قلت أنك ترى نفس الشخص في كل كابوس ...فهل تعرف من هو؟"....رد مدحت في أسى:- " نعم أعرفه"....ثم نظر إلى في حزن وقال :- " إنه أنت يا أشرف".... و خيم الصمت على الغرفة...

الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

ألبوم صور


" د / رمزي" يعاني من الاكتئاب الحاد.....تلك هي الحقيقة التي كان الجميع يتوقعها و أقرها "د / عدلي أبو الوفا" أستاذ الطب النفسي الكبير و صديق العائلة و الدكتور رمزي منذ أكثر من ثلاثين عام....بالفعل توقع الجميع أن يكون ما يمر به "د/ رمزي" أعراض الاكتئاب الشديد..... الكل من حوله يعرف هذا و الكل يحاول مساعدته...لكن لحظة...من هو "د/ رمزي".....لحظات و أعرفكم به....
*****
(( أ.د/ رمزي عبد الملك )) رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة عين شمس))....بهذه الكلمات كان "د/ رمزي" يعرف بها نفسه دائما لأي شخص ويقولها بكل فخر و اعتزاز.... وبمثلها أعرفكم به..... بالفعل قد كان شخصية مرموقة إلى حد بعيد....مشهورا بين جحافل نقاد الأدب و حاضرا بين علماء الحضارات القديمة..... حضر العديد من الندوات .... أجرى الكثير من اللقاءات التليفزيونية و الإذاعية..... كان حجة في علمه و نهمه الشديد للعلم هو من جعله يهتم بدراسة الأدب كدراسة مستقلة بعيدة عن دراسته الأصلية بل و يحرز شهادة الدكتوراة في الأدب الإغريقي من جامعة سالز بورج بالنمسا.....كان بالفعل شخصية ناجحة.... إذن ما الذي زج به في دائرة الاكتئاب اللعين ؟!!!......
*****
منذ ثلاثة أعوام بدأ "د/رمزي" يشعر بأن هناك أيدي خفية تسعى لزحزحته من منصبه.... ولم لا....نجل "د/كمال السيد" تزوج مؤخرا من كريمة السيد عميد الكلية.... ما المانع إذن من الإطاحة به و تعيين "د/كمال" مكانه....ظل يطمئن نفسه أنه لم يستمر سوى عامين في هذا المنصب وأقله هناك عام آخر يبقى فيه إذا لم يجدد له مدة إضافية....و حتى لو فقد منصب رئيس القسم فسيظل أستاذا في الجامعة ولن يتغير من موقفه شئ.....فلينتظر و لا يترقب....
*****
لم يمض سوى أسبوعان – منذ ذلك اليوم الذي فكر فيه في المؤامرة- و أطيح به من منصبه....لم يهتم لكن الطامة الكبرى جاءته في صورة خبر من العميد و من السيد رئيس الجامعة يخبراه أنه قد أحيل للمعاش....لم يصدق في بداية الأمر لكنه علم أنه معاش مبكر .... أو رفد تعسفي كما أسماه....لم يصمت وتوجه بمئات الشكاوى....وفي النهاية....أحيل للمعاش و صار المنزل مكانه....
*****
اليوم يكمل "د/رمزي "عامه الثاني الذي يقضيه مكتئبا..... أولاده تزوجوا و سافروا مع أزواجهم إلى الخارج...زوجته مدام "ثريا" تعمل في إحدى المصالح الحكومية....لذا يقضي النهار كله وحده....لم يكن له أصدقاء و لم يكن مركزه يسمح له بالجلوس على المقاهي....صار صامتا أغلب الوقت...يرفض الطعام و يأبى الحديث.....باختصار كان يرفض الحياة....
*****
في هذا اليوم كانت حالته أفضل ....فكر في شئ يزجي وقته فتذكر عادته القديمة في التصوير و جمع الصور في ألبوم واحد.... كان يحتفظ بألبومه الخاص جدا في خزانته الخاصة حتى لا يطلع إليه أحد....هناك بعض الخصوصيات يخشى أن تعلمها إمرأته....تذكر الألبوم فأخرجه من الخزانة و شرع يتصفحه....كان له عادة غريبة أخرى....كان يكتب تحت كل صورة مناسبتها و تاريخها ونبذة عن علاقته بالأشخاص الظاهرين معه في الصورة....شرع يتصفح و أخد يسترجع الذكريات....
*****
هذه صورته هو و ابنه "جمال".....تذكره و استبد به الضيق....ها هو "جمال" الذي تعب في تربيته يستكثر عليه حتى السؤال....أي ابن هذا...قلب الصفحة فوجد صورة له مع بعض الزملاء ممن كانوا معه في رحلة الدكتوراه في سالز بورج....ها هم من كان يعتقد أنهم أصدقاءه اليوم يتركونه و ينسون كل شئ عنه و يلتفون حول رئيس القسم الجديد....قلب الصفحة فوجد صورة له وسط طلبته...الكل منهم كان يدعي أنه يحبه ويحترمه...لكنه لن ينسى يوم إحالته للمعاش حينما سمع "محسن" طالبه المفضل الذي عامله كابن له يقول لزميله أخيرا قد انزاح الكابوس...بئس النفاق....أخذ يقلب صفحات الألبوم حتى وصل إلى غايته...كانت صورة إمرأة ....متوسطة الجمال تمتلك ملامح هادئة و نظراتها توحي بالذكاء....كتب تحتها...(( كاميليا....حبيبة العمر.... الحب الأول و الأخير....تزوجت و أنجبت....نجحت و فشلت....لكني لم ولن أحب غيرك يا كاميليا )).... ترقرقت دمعة من عيناه....كم أحبها لكن القدر حال بينه وبينها....أسند رأسه على مسند مقعده و شرع يستعيد ذكرياته معها....لم يشعر كم من الوقت مضى لكنه فجأة استيقظ....غارقا في العرق البارد مما جعله يوقن أنه قد نام فترة لا بأس بها.....نظر حوله بعينان لا تريان فوجد الألبوم موضعا بعناية على المكتب ...أمسك به فوجده مفتوحا على صورة كاميليا ووجد ورقة موضوعة في نفس الصفحة....فتحها فوجد رسالة من زوجته تقول فيها (( أنا في منزل أخي....أرجو أن ترسل ورقة طلاقي في أسرع وقت....ثريا ))....حتى الإمضاء لم تزينه بكملة زوجتك وحبيبتك كما كانت تفعل من قبل....واضح أنها قد اتخذت قرارا صريحا لا رجعة فيه....شعر أنه بالفعل قد أخطأ في حقها.... و ها هو السر الذي أخفاه ثلاثين عاما ينكشف ....تهاوى على أقرب مقعد....و أخذ يفكر....و أخذ يبكي....
*****
في ألبوم صور اختزن ذكريات حياته و سنينه كلها..... وفي لحظة واحدة هدم حياته...ألبوم صور.....