الاثنين، 11 أغسطس 2008

انتحار


موظف بسيط هو عم سالم....مثل أي مواطن بسيط آخر كانت طموحاته كلها تتلخص في مأوى أبدي و مأكل و ملبس....ليس له أحلام....يعيش يومه في انتظار غده....ببساطة..هو شخص يعيش اليوم ليموت غدا...
*****
عم سالم فراش بسيط في إحدى المصالح الحكومية.... مرتبه ضئيل بالكاد يكفي حاجات أهل بيته...حتى التدخين قد أقلع عنه منذ زمن حتى يوفر ثمنه....بمعطفه البني الرث يجتاز أبواب المصلحة....الجميع في المصلحة يحبه بلا استثناء....بوجهه البشوش و لسانه العذب يتعامل مع الجميع....رغم حالته المادية المعدمة و حياته القحلة يراه الجميع سعيدا متفائلا....يعمل و يعمل...يخدم هذا و يساعد ذاك وفي النهاية يحظي بقروش التي هي مرتبه و يفوز بملاليم التي هي "بقشيشه".... يعود إلى داره سعيدا بما حقق....يعرض ما اشترى على أبنائه المراهقين الساخطين بطبعهم أملا في بسمة تتراقص على شفاهم دون جدوى... تهون عليه إمرأته أم نوال الأمر و تستمر الحياة....
*****
نعود بالذاكرة لأكثر من ثلاثين عام إلى الوراء....سالم شاب بسيط طامح لم يتلقى نصيبه من التعليم....نقول سالم لأنه لم يحظ بعد بلقب "عم"....سالم يعيش في إحدى المناطق الشعبية.... سالم يقع في حب كريمة الفتاة الخجلى التي تسكن في الجوار.... كريمة- فيما بعد صارت أم نوال- تبادل سالم الحب....تعتقد انها تهيم به حبا و أنا اعتقد أنها تحبه لأنها لا تجد أحدا آخر تحبه....هكذا تتم الزيجة.... نشأتهم بسيطة فكانت طموحاتهم أبسط....سالم غير متعلم و بالتالي لا يمتلك أي ثقافة من أي نوع....ثقافته الخاصة هي ثقافة لقمة العيش و لا يمتلك أي اتجاه سياسي.....إنسان مسالم لا هم له في الحياة سوى العودة من عمله كل ليلة و ضم أطفاله إلى صدره و رسم البسمة على شفاهم....تلك البسمة التي صار يعجز عن رسمها منذ صارت نوال ابنته شابة يافعة وصار عاطف مراهقا لعينا....و كذلك تستمر الحياة...
*****
تغير العم سالم.... لم يعد ذلك الرجل البشوش المتفائل الراضي عن الكون....صار إنسانا آخر...لم يعد يبتسم إلا فيما ندر....صامتا كالموت....حزين كالغروب....لم يكن يشكو إلى أحد....لكن همومه هذه المرة كانت فوق الاحتمال....نوال مقبلة على زواج و تحتاج إلى مصاريف طائلة لا قبل له بها....عاطف لا يريد استكمال الدراسة و يسعى إلى السفر و شق طريق حياته بالخارج و يصر على أن يتحمل أباه تلك التكاليف....و الأسوأ من هذا كله...زوجته أم نوال....اكتشفت أنها تعاني من المرض الخبيث و مصاريف علاج لا يقدر عليها....كان يحمل كل هذا بداخله ولا يبوح....لكن البعض نصحه بان مشكلته لو كانت مادية فلم لا يجرب حظه و يخطر المدير بها عسى أن يقدم له أي مساعدة ممكنة.... لم يجد عم سالم مفرا من هذا الحل عسى أن يبعده عن فكرة الانتحار المسيطرة على تفكيره.... وبعد لقاء دام قرابة الساعة خرج عم سالم أكثر حزنا و لكن أقل سخطا..... وسيطرت عليه هواجس جاهد حتى يطردها من رأسه لكنه فشل....لكنه علم انه ستسمر الحياة و لكن ليست كما كانت....
*****
لن ينسى أي موظف في هذه المصلحة ما رآه في هذا الصباح طوال حياته....فعندما توجه الموظفون إلى عملهم في صباح هذا اليوم....وعندما فتح الموظفون هذا المكتب....وجدوا كرسيا مقلوبا على الأرض....و حبلا متدلياً من السقف....وجثة معلقة بالحبل....و... و أعتقد أن على المصلحة أن تبحث عن مدير آخر....
*****