الأحد، 8 مارس 2009

و هكذا رحلت مريم

منذ أن بدأت عيناي في الرؤية....منذ أن بدأت أذني في السمع....منذ أن بدأ قلبي بالحس...و أنا أحب مريم....مريم الملاك....مريم الرقة....مريم الجمال....مريم البراءة....مريم الحنان.... مريم الحب...و إليك صديقي أروي لك إحدى روائع العشق...
*****
كنا كأسرة من الطبقة المتوسطة نقطن في شقة متوسطة في بناية متوسطة في ضاحية متوسطة في منطقة متوسطة.... لله الحمد لم نعان الفاقة في أي وقت من حياتنا....كنا مستورين بما تحمل الكلمة من معان... أبي موظف محترم في الشهر العقاري و أمي معلمة.... لي أخ و أخت يصغراني في السن....و نحن بفضل الله أسرة محبوبة من الجميع....أبي رجل محترم متزن وهبه الله الحكمة و القول السديد... و أمي إنسانة ذكية مجاملة تحترم الغير و تقدر الجيرة....لذا كان من الطبيعي أن تنشأ علاقات طيبة مع الجيران و خصوصا أسرة الأستاذ ملاك حنين و حرمه السيدة فيوليت....قوما محترمين كانوا....و كنت أميل إليهم كثيرا و بشكل خاص ابنهم مينا و ابنتهم التي بالتأكيد خمنت أنها مريم...
*****
طفولة جميلة تلك التي عاشها ثلاثتنا....مريم و مينا و أنا.... مينا كان في مثل عمري و كان نعم الصديق.... أما مريم فكانت تصغرني بعامين... كانت في مثل سن أختي و إن لم تنشأ صداقة بينهما....فنحن بشر و لسنا أحجار متراصة....هكذا ترانا نلعب سويا كل يوم....يصور لنا خيالنا الطفولي البرئ الكثير....نخترع و نبتكر و نستمتع....نجري و نجري و نجري بلا سبب مفهوم و لا غاية محددة....ثم ينهكنا التعب فنعود مع ظلمة المغرب إلى ديارنا مشعثين مغبرين....مرهقين لكن سعداء....
*****
كبرنا جميعا....وصلنا لسن المراهقة....لذا تم حجب مريم عن عالمنا الذكوري و بقت صداقتي بمينا كما هي... نضجت مريم....نضجت جمالا و رقة و عقلا ....فالفتيات ينضجن قبل الفتيان كما تعلم....ففي الوقت الذي ندبر فيه المكائد لبعضنا و نتصارع و نمرغ أجسادنا في الوحل قتالا...تجد الفتيات يحلمن بالغد و ينسجن الروائع و ينظمن الشعر .... لذا نضجت مريم... و كان الحب بداخلي قد نما....نما إلى درجة لم أعهدها....طبعا كنت أحبها منذ الصغر لكن في تلك الفترة اللعينة التي تشتعل فيها عواطفك وصل الحب إلى أبعد مدى....تخيل صديقي أنها حينما سافرت للاصطياف مع أسرتها مرضت و أصابتني الحمى.... نعم أحببتها لكني كنت أعقل كثيرا من أن اندفع لأخبرها....و آثرت الانتظار....
*****
كبرت أكثر و دخلت الجامعة....كنت طوال تلك الفترة أحب مريم في صمت و لم أتبادل معها كلمة واحدة منذ الطفولة...فقط تحية عابرة مع ابتسامة رقيقة مجاملة حينما تراني صدفة في شرفة داري المواجهة لشرفتهم....نعم طوال تلك الفترة كانت الابتسامة تكفيني...و كنت قانع....حتى دخلت هي الجامعة....حينها علمت من مينا أن مجدي ابن خالته مارسيل يود أن يخطب مريم...لك أن تتخيل موقع قلبي في جسدي حينما سمعت تلك الكلمات....لقد هوا إلى ساقي...لكن مينا نفسه كان رافضا تلك الخطبة لان مجدي على حد قوله " واد صايع كده و مش بتاع مسؤولية....مش ممكن اديله اختي"....و قابلت كلامه بالصمت مع أن كل ذرة في كياني تقر بالموافقة و تؤمن على كلامه....و أضمرت في نفسي أمرا...
*****
كنت أعلم طريق عودة مريم من الكنيسة يوم الأحد....فهي متدينة و لم تترك قداسا منذ بلوغها... هكذا انتظرتها في إحدى الشوارع و استوقفتها....لا اتذكر ماذا قلت لها...فأنا أساسا لم أسمع...لقد كان صوت ضربات قلبي أعلى من صوت حنجرتي....لكني لاحظت تورد وجهها الصبوح بحمرة الخجل....فهي على حد قولها أول مرة تسمع اعترافا صريحا بالحب.... وكعادة الفتيات طلبت مهلة للتفكير....و هي الحيلة التي يتعلمنها في الرحم و يرددوها منذ المهد....و بالطبع وافقت و اتفقنا على موعد آخر في نفس المكان بعد اسبوع من تلك اللحظة الخالدة....
*****
حينما أخبرتني أنها تبادلني الإحساس لم أصدق نفسي....مريم تحبني....مريم الملاك تحبني.... و توافق على الارتباط بي....و بدأت مع مريم قصة حبنا الأسطورية....كنت ألقاها كل يومين في الجامعة...نجلس سويا نتحدث....نختلس ساعة من الحب الصادق....نسرق لحظات من العشق الجميل...نحلم سويا...نفرح سويا....نحزن سويا....كثيرا ما كنا نفكر في العقبات الكثر في طريق ارتباطنا الأبدي....عقبات مادية و اجتماعية و مستقبلية....تارة كانت تبكي و أهدئ من روعها و اطمأنها باننا لازلنا سويا....و تارة أتجهم أنا و تهون هي علي...كانت لي السند وكنت لها العون....كانت لي الراحة و كنت لها الأمان...كانت جميلة...كانت ذكية...كانت طموحة....و كانت –تخيل-تحبني....
*****
بمجرد أن تخرجت أنا و نجحت مريم في عامها الدراسي...حتى اتخذنا قرارنا....يجب أن تفاتح مريم أهلها في موضوع ارتباطنا....و تركت لها مهلة الأسبوع حتى تأتيني بردهم.... و لم يمر الأسبوع و جائني الرد...
*****
فاجأني صوت أمي و هي تقول "هو الأستاذ ملاك و جماعته ست فيوليت بيعزلوا ولا إيه؟!"... نظرت إلى أمي مبهوتا و لم أرد....اندفعت إلى الشارع و رأيت العمال يحملون الأثاث إلى سيارة نقل كبيرة....رأيت الأستاذ ملاك يشيح بوجهه عني....مريم دامعة العينين....مينا يقترب مني و يقول "مقدرش على بعدك يا صاحبي....بس انت مسبتلناش خيار تاني....احنا هننزل إسكندرية عند أهل أبويا...و مريم هتحول للجامعة هناك....اشوف وشك بخير...يا صاحبي"... لم يكد ينهي عبارته حتى ركب سيارتهم الصغيرة و انطلقوا خلف سيارة الأثاث...و لم تمض سوى دقيقة حتى غابوا عن ناظري....
*****
كنت أعلم أسباب رفضهم ارتباطي بمريم.... وكنت أعلم سبب رحيلهم...سبب بسيط جدا....هي اسمها مريم ملاك حنين.... و انا اسمي محمد مصطفى السيد....لكن هل هذا سبب كاف للرحيل....هل هذا سبب كاف للفراق؟!...
*****
و هكذا رحلت مريم.... لم أعد أراها.... لم أعد اسمع عنها....لم أعد أعرف أخبارها....لقد رحلت مريم....لكن معها لم يرحل الحب....