يأتي من بعيد...من على حافة الشارع....عند مقدمة الحارة....عند مدخل الزقاق....يتقدم...يمشي ببطء...يمشي بعناء دافعا عربته اليدوية ذات العجلتين و المقدمة زهية الألوان...و على الرغم من الجهد الذي يبذله....و من ضيق التنفس الذي يعتريه....و من العرق الذي يغمر جبهته و يبلل جلبابه...فإنه يكافح و يأخذ نفسا عميقا قبل أن يرفع عقيرته بأعلى ما يمكن و يصيح " دندرمااااااااااه"...
*****
لم يكن عادل سلامة ابن السبع سنوات يحلم بشئ صعب او مستحيل او خيالي....لم يكن يحلم بغد افضل او بحياة انعم او بعائلة أكثر ثراء...لم يكن يحلم سوى بقطعة دندرمة....تلك الحلوى التي يتزاحم جميع الأطفال على عم حسين البائع من أجل الاستمتاع بها....يأتي عم حسين يوميا فيلتف حوله الأغنياء من الأطفال ذوات الحسب و النسب...ينقض عليه فريد ابن الحاج سيد البشندي عين أعيان المنطقة بأسرها....و جميلة بنت سليم الصائغ...و غيرهم من الطبقة التي كان يراها عادل من المستحيلات و يراهم في مصاف المعجزات....يلتفوا حول عم حسين و يمهرونه ما يملكون من مصروف أسطوري و يحصلون على مبتغاهم....يقف فريد يلعق الدندرمه في تلذذ...يرمقه عادل طويلا...هو ليس مثله يعلم هذا...لم يحظ أبدا بفرصة...هو ليس نظيفا مثل فريد و لا يملك ان يكون نظيفا...لا مجال لعقد المقارنات...فريد يرتدي كل يوم جلباب جديد نظيف لامع بينما هو لا يمتلك سوى جلباب واحد ممزق بهت لونه...يطرق خجلا من منظره فينظر ارضا فيرى حذاء فريد المبهر فلا يعقد مقارنة لأنه اساسا بلا حذاء....لا يحاول النظر إلى جميلة سيدة الشموس العليا...فهي بالتأكيد مقدرة لفريد...هما ينتميان لنفس العالم و يرتادان أرقى المدارس و يرتديان أفخر الثياب و ينتعلان أنظف الأحذية...لا مجال لعقد المقارنات... لكن عادل يرى من حقه أن يحظى بشئ في تلك الدنيا حتى لو كان هذا الشئ مجرد قطعة دندرمة...ألا يستحقها حتى؟!!
*****
ينظر إلى فريد الذي يلعق الدندرمة في تلذذ....يتغلب على خجله و يتغلب على عفة نفسه و يقول في حياء "ما تجيب حتة يا فريد بيه"...لا يعلم لماذا نطق كلمة "بيه" هذه....و ساءل نفسه..هل إلى هذه الدرجة يشعر بالفارق الشاسع بينهما و بين طبقتيهما...أم أنها البرمجة الفطرية التي يسير عليها مثلما سار عليها أهله و سيسير عليها أحفاده....أم أنها عضة الفقر القوية التي تبث سمومها في روحة و تقضي على الموهبة و رجاحة الذهن؟....لا يدري و لم يفكر...لم يفكر سوى في فريد الذي ابتسم في سخرية قبل أن يلقي ما تبقى من الحلوى في الوحل و رحل مبتعدا موجها إليه رسالة هي الأقسى و الأسوأ و الأصوب في آن واحد....لم يتحمل عادل تلك الصفحة المعنوية....اغرورقت عيناه بالدموع....فلم يبصر لبيته طريقا....و من بين غشاوة عينية نظر إلى عربة الدندرمة نظرة أخيرة و شيعها بنظراته و هي تبتعد و تبتعد....
*****
يعلم أنهم فقراء...أبوه عامل أجير يعمل يوما و يسترح عشرا....لا يكفي قوت أهله...و زاد الطين بلة إدمان أبيه على الخمر...لم يكن خمرا بمعنى الكلمة لكنه خليط من السوبيا و الطافية و خلاصة الأسفنجة و غيرها من تلك الأنواع الرديئة المخصصة لحقارة البشر و نفاية الخلق....تغيرت طباع أبيه...صار عصبيا مجنونا سئ الخلق منحط الوضع...يهينه الناس في عمله فينفس عن غضبه في أهل بيته...يصرخ في علي الرضيع و في عماد ذي السنوات الثلاث و يخرج جام انفعاله فيه و في أمه....فيضربهم حتى يظن أن الموت آت الآن...فلا يأت....ثم يخرج و هو يلعنهم و يلعن الدنيا البائسة التي أغرقته في مستنقع الفقر فلم يأت من يخلصه منه...كان دوما ما يعتقد أنه يستحق الأفضل لا لشئ سوى لأنه هو....ثم يطلق سبة أخيرة و يغادر الدار إلى الخمارة القريبة....يرى عادل أمه تبكي فيهون عليها...و من بين دموعها يسمعها تهمس "حسبي الله و نعم الوكيل فيك يا سلامة يا ابن حوا و ادم"....ثم يرق قلبها من الدعاء على زوجها فتدعو له قائلة " ربنا يكرمك يا سلامه و يتوب عليك م الهباب ده"....ثم تستغفر الله و كأنها تتطهر من خطأها في حق زوجها و تتوب من خطأها في "الهباب ده"...ثم تنسى الأمر برمته و كأن شيئا لم يكن...
*****
لم يدر عادل لماذا خرج أبوه اليوم من البيت منتعشا...لا يصرخ و لا يضرب بل أنه قبل أطفاله الثلاثة و ودع زوجته و خرج...أمه نفسها شيعته بدعواتها ثم أخذت حماما بالكوز الصغير في دورة المياة القاحلة في دارهم و جلست تمشط شعرها الفاحم السواد...لم يفهم سر ذلك التبدل العارض في علاقتهم...و صغر سنه لم يساعده على فهم أن حقيقة الأمر لا تتعد علاقة زوجية عابرة دافئة استعان بها الزوجان لإذابة جبال الجليد التي تغطي علاقتهم الحياتية نفسها....أحس الطفل بالأمان فقرر مفاتحة أمه في مطلبه الدائم و حلمه المستمر...توجه إليها و في براءة قال" أمه انا عايز دندرمة"...نظرت له مليا قبل أن تقول " عيب يا وله"....ثم أردفت " ممعناش فلوس"....رد الطفل " يامه دي بتلاته تعريفه"...فكرت الأم قليلا ثم قالت "يا وله التلاته تعريفه دول يجيبوا خمس ترغفه و خمس بيضات و حتة جبنه و ازازة لبن لاخوك علي"...ثم لكي تقطع عليه التفكير في ذلك الموضوع احتدت قائلة" و بعدين هو أجرة أبوك فيها كام تلاته تعريفه يا بن الكلب"....علم عادل أن قرار الرفض المنتظر قد صدر فبكى كعادته...و أخذ يبكي حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم...و لم يغمض له جفن إلا بعد أن أضمر في نفسه أمرا....
*****
منذ فجر اليوم التالي و مع إشراقة أول شعاع لشمس اليوم الجديد كان عادل ينطلق هنا و هناك....يحمل الأشياء لتلك المرأة المسنة....و يساعد عامل النظافة و يحمل القصعات مع البنائيين بما تتيح له بنيته الصغيرة و جسده الضعيف...بعضهم أعطاه و البعض طرده و آخرون ضربوه لكنه لم يشتك...و كافح و ناضل...و مليم ثم مليم ثم مليم...و في غضون ثلاثة أيام جمع المبلغ المنشود...و صار اليوم جاهزا لتحقيق حلم حياته الأبدي...
*****
حينما أتى الصباح أخيرا بعد طول انتظار استيقظ عادل...سمع أباه كالعادة يصرخ و يضرب أمه فلم يهتم...خرج الأب و ترك وراءه زوجة باكية و أطفال جياع....رأى عادل أمه تبكي فلم يكترث...سمع علي يبكي جوعا فلم يلتفت...أحس بعماد يتضور حاجة فلم يهتم....نعم أبوه لم يترك قرشا واحد لأهل بيته لكنه ليس مسؤول عنهم....و خرج من الدار عازما على تحقيق حلمه المأمول...
*****
ها هو عم حسين يقترب بعربته الزاهية ألوانها....فريد ينظر إليه في احتقار لكنه لا يهتم....فريد يقترب من عم حسين و هو الاخر يقترب....فريد يشتري مراده و يلتفت عم حسين إلى عادل...يهم عادل ان يشتري الدندرمة بالفستق الذي يحلم بتذوقها منذ زمن...يتكلم أخيرا إلى عم حسين و يقول "عاوز دندرمة بالفس...." لكنه يبتر عبارته....يتذكر دموع أمه و بكاء على و جوع عماد....هم لا يملكون مالا لكنه الآن يملكه....هم لا يملكون قوتا لكنه يستطيع أن يوفره....و بحسم انسحب من عند عم حسين و توجه إلى أقرب محل بقالة فابتاع خبزا و بيضا و لبنا...ثم خرج من المحل....يلقي نظرة على فريد و جميلة و سامي و غيرهم...يراهم يلعقون حلواهم في تلذذ...و لأول مرة لم يشعر بالفقر و لا بالتضاؤل...بل سيطر عليه شعور جديد....شعر بنفسه عملاقا و شعر بهم يتضاءلون فهم كحصى الأرض أو هم أصغر....و نظر لعربة الدندرمة نظرة اخيرة ولم يتابعها و هي تبتعد...بل أنه هو الذي أخذ يبتعد و يبتعد....و من يومها و هو يحلم بكل شئ ...عدا الدندرمة....
*****
أخيرا رجعت و بكلمكم مره تانيه...انا مبسوط بجد ان اكتب تاني...اسف جدا بس انا عندي امتحانات كمان شهرين... والباطنة و الاطفال مسيطرين علينا و على وقتنا و قارفينا اخر قرف...و امتحانات صغيره كتيييييييير عدت عليا و لسه شغال فيها...فمحتاج دعواتكم جدا و الله يا جماعه...بالنسبة للقصه...مش عار انا حاببها بس حاسس انها مش هتعجبكم مش عارف ليه... :)
اشوفك على خير و في رعاية الله
سلام
رامي سعيد
breaking the break
قبل 14 عامًا