يدخل إلى المقهى...هو ليس مقهى بالصورة المعروفة للمقاهي...هو كافتيريا أو كافيه إن صح النعبير....يدخل....ممسكا بكتابه الأبدي الذي لا يمسك غيره....بخطوات الواثق مما يفعله أو خطوات من فعل ذلك مرارا يتجه إلى الطاولة الشاغرة في الركن...إلى جوارها زجاج النافذة المغلقة إلى الأبد...يجلس...يضع الكتاب أمامه....يسند رأسه على راحة يده....ينظر إلى الشارع الهادئ من النافذة المغلقة....و يشرد ذهنه...و يذهب في عالم من الماضي...
*****
يتذكرها....يتذكر سنى الحب الأولى....يتذكر اللقاء الأول...صدفة خطط لها القدر و جمعتهما معا...يتذكر إعجابه الأولي بها....يتذكر خفقان قلبه لها....ثم تطور الإعجاب...صار هياما...صار شرودا ليليا...ثم صار حبا جارفا....يتذكر أول مره اعترف لها بحبه....كانت في نفس الكافيه الذي يجلس فيه الآن....يتذكر تورد وجهها الصبوح بحمرة الخجل....يتذكر تلعثمها في القول و تعثرها في الرد....يتذكر أيام الارتباط الأولى....يتذكر خططهما و أملهما في مستقبل مبهر و غد مشرق...يتذكر أحلامها التي كان عمادها لؤلؤ محشو بالمرمر و مكسو بالحرير....يتذكر كيف كان يختطف قبلة سريعة من وجنتها الرقيقة....يمسك بيدها البضه الندية...يهمس في أذنها "بحبك يا نرمين"....تبتسم في خفر قبل أن تقول في رقة " أنا أكتر"
*****
يخرجه من خواطره صوت النادل و هو يقول "قهوة كالعادة يا فندم؟!"....يهز رأسه في عدم اكتراث أن نعم....و من ثم ينصرف النادل....لم يتعجب من كلمة كالعادة....فلقد مضى شهرين كاملين و هو يأتي هنا كل يوم في نفس الموعد و لم يغير أبدا مطلبه...كل مرة يطلب قدحا من القهوة....حتى صار سؤاله نوعا من الروتين ليس إلا....يعود إلى شروده....يبحر في بحر خواطره....يتذكر يوم خطبتهما....يتذكر اعتراض أبيها و أمها على خطبتها من شاب في مقتبل العمر لا يملك حتى تكلفة حياته ولا قوت يومه....لكنها تمسكت به و وقفت في وجه الجميع و هي تردد "مش هتجوز غير يوسف...حتى و لو متجوزتش خالص"....و لم يملك الأهل سوى الانصياع لرغبتها....يتذكر الدبلة الذهبية التي أحاط بها بنصرها الأيمن...كانت هي الشاغلة الذهبية الوحيدة التي ابتاعها لها... و كانت راضية...قانعة بالحب و مكتفية بالعشق....كانت أحيانا تغضب من تراخيه في البحث عن مسكن و أثاث و مال....كانت تتشاجر معه.... و يتذكر –لعجبه- كيف كان يحب شجارها معه...كانت حينما تغضب تتورد وجنتيها و يخرج صوتها مخنوقا بالبكاء كالأطفال قبل أن تتنهد في عمق و تطلق زفرة حارة ... كان يقابل ثورتها في هدوء....كان يشعر أنها طفلته....ينتظر حتى تهدأ تماما ثم يطلق دعابة فتضحك فيطمئن إلى أن الطريق الملكي إلى قلبها ممهد و معبد....من ثم يلثم وجنتها الرقيقة معتذرا قبل أن يمسك كفها الأملس و يهمس على أذنها "بحبك يا نرمين"...ترد في تدلل" و أنا كمان"
*****
يرتشف جرعة من القهوة المركزة التي أحضرها النادل و ينظر إلى الكتاب الذي لم يقرأه قط لكنه يحتفظ به على سبيل الذكرى..فقد كان أول هدية يتلقاها منها....يتنهد من الأعماق قبل أن يعود لسبر أغوار الذكريات....يتذكر التبدل المفاجئ الذي طرأ على علاقتهما....لم تعد رومانسية حالمة كعهده الدائم بها...بل صارت دوما تذكره بالماديات...زاد الشجار و زاد ضغط الأهل....كثيرا ما كان ينجح في قمع غضبها المتأجج و كان يعرف كيف يهدئ من ثورة أهلها... و كعادته كان يتحمل ثورتها في صبر قبل أن يمارس طريقته المعهودة في تهدئتها قبل أن يهمس في أذنها "بحبك يا نرمين"...لكنها لم ترد...
*****
يتذكر آخر لقاء بينهما كأنه كان بالأمس....نرمين تقابله في ميدان عام على عكس كل لقاءاتهما الهادئة....تتكلم و تتكلم....تعبر عن سخطها على تراخيه و ضيقها من بلادته....يتحمل ثورتها و يقمع غضبه الشخصي المغلف بشعور بالعجز و المبطن بأنهار من الضعف....تتكلم و تتكلم قبل أن تخلع الدبلة عن بنصرها الأيمن و تناوله إياها و هي تقول " دبلتك اهه....احنا مش لبعض يا يوسف"...ثم ترحل في صمت...يراقبها و هي تعبر الطريق...تعبره في جمال زهرة تفتحت لتوها....تعبره في رشاقة غزال خرجت من الأدغال....تعبره في خفة لبؤة تنقض على فريستها....راقبها إلى أن عبرت الطريق...لم تلتفت إلى الخلف قط...ينظر إليها و إلى الدبلة غير مصدق قبل أن يغمغم في حزن " بس أنا بحبك يا نرمين"....لكنها لم تسمع...
*****
يرشف رشفة أخيرة من قهوته و ينظر بلا اكتراث إلى كتابه....ثم يخرج الدبلة التي احتفظ بها منذ هذا اليوم..احتفظ بها لينظر إليها كل يوم و يتذكرها رغم أنه أصلا لم ينسها....لقد مضى ما يقرب من الشهرين على آخر لقاء و هو بعد يعيش في ألم....ينظر من النافذة....ثم يخفق قلبه في عنف....أنها هي...نعم هي....تمشي مع أحدهم....تتأبط ذراعه و تضحك في مرح....أنه يقترب من أذنها و يهمس...يمسك بكفها الناعم...يداعب شعرها البني المنسدل...أبهذه السرعة نسته؟!...أكان كل هذا الحب وهما؟!....هل عاش حلما و أفاق على كابوس؟....خفق قلبه في عنف....زفر زفرة حارة...من عينيه نزلت عبرة حارقة....ثم نهض....تحرك صوب الباب كالمرنح و غادر المكان....غادره و هو يعلم أنه لن يعود إليه ثانية....و على الطاولة ترك وراءه كتاب و قدح قهوة و بعض المال و... و دبلة دهب..
breaking the break
قبل 14 عامًا