السبت، 25 أكتوبر 2008

كريشيندو


بصعوبة يفتح عينيه.... يتثاءب مليا ثم يتأوه في فراشه الوثير.... ينظر إلى المنبه بجواره فيجد أن الظهيرة قد اقتربت.... يتأوه مرة أخرى ثم ينهض بخطى متثاقلة من على الفراش.... يمشي ببطء نحو الرزنامة المعلقة على الحائط...ينزع ورقة التقويم الدالة على الأمس ليكشف عن يوم جديد يضاف إلى عمره.... ينظر إلى التاريخ.... لم يكن بالنسبة له تاريخا اعتياديا....إنه الحادي عشر من يوليو...يوم مولده.... ها هو يستقبل عام شخصي جديد.... اليوم يتم عامه السبعين من العمر....كما أنه أيضا يتم عامه الخامس و الأربعين من الهجرة....خمسة و أربعون عام مروا عليه منذ أن هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية....ياله من عمر....يمسك بورقة التقويم القديمة و يلقها في إهمال.... يتوجه ببطء إلى المطبخ..... يعد لنفسه بعضا من القهوة...تلك القهوة الأمريكية منزوعة الكافيين التي يعتبرها كل عربي مياه ساخنة لا أكثر.... يحمل كوب القهوة في يده...يتوجه إلى حديقة قصره الفخم....يجلس أمام حوض السباحة الفاخر....يساءل نفسه...كيف تعاقبت عليه كل تلك السنون في هذا البلد....كيف عاش بدون أهله كل تلك المدة....رشف رشفة أولى من القهوة و شرع يسترجع الذكريات....
*****
اسمه كريم المصري.... والده أستاذ صلاح المصري....قد يوحي اسمه بالعظمة لكنه لم يكن سوى موظف بسيط لا يملك من الدنيا سوى أسرته و مرتبه الذي الكاد يكفي متطلبات تلك الأسرة.... نشأة كريم لم تكن نشأة يسيرة و لم يكن طفلا مدللا....هو الابن الثاني بين أربعة ابناء.... ثلاث أولاد و بنت.... فبطبيعة الحال لم يأخذ حظه من التدليل....الابن الأكبر هشام كان يحظي بكل الاهتمام باعتباره الابن البكري...كل طلباته تجاب....الابنة الثالثة هي ياسمين و هي البنت الوحيدة فحظت بكل تدليل وكل أوامرها تنفذ....الابن الأصغر هو حازم فحظي بكل رعاية باعتباره آخر العنقود و كل أحلامه تتحقق.... أما هو فلم يكن سوى ابن من الأبناء....لم يكن له موقعا مميز في الترتيب فوجد نفسه في وضع لا يحسد عليه....لكن هذه التفرقة في المعاملة لم تمر مرور الكرام بل تركت في نفسه أثرا لا يمحى من المشكلات والعقد النفسية مما أثر على علاقته بأهله فنشأ حانقا حاقدا غاضبا كارها.... لكنه في النهاية نشأ....
*****
لم تكن فترة مراهقته من الفترات السعيدة.... فمع خطواته الأولى في المرحلة الثانوية توفي والده فجأة....توفي عائل الأسرة الوحيد.... على الرغم من غضبه الشديد من والده لتفرقته الواضحة إلا أنه كان شديد التعلق به....كان يحبه و يوقره و يعتبره مثله الأعلى....لذا كان لوفاته أسوأ الأثر في نفسه....ترك وفاته ندبة لا يمحوها الزمن في نفس كريم.... عاش مراهقة كئيبة.... فلا أب ولا أصدقاء و لا حبيبة.... كانت أيام دراسته الثانوية من أسوأ أيام عمره....لكن الحال لم يتحسن مع دخوله الجامعة... في تلك الفترة كان أخوه الأكبر هشام قد ترك الدراسة و خرج للعمل كي يعول إخوته و أمه....كان ينفق عليهم و كان نعم الابن البار بأهله.... ألحق كريم بالجامعة و رفض تماما أن يترك كريم دراسته و يخرج للعمل ..مع أن كريم لم يعرض أساسا أن يعولهم...لكن هشام كان نعم الأخ بحق...
*****
كانت تلك الفترة من أكثر فترات حياته استقرارا.... ولكن كالهدوء يسبق العاصفة...و كالجزر يسبق المد.... حدثت الفاجعة التي غيرت حياته.... حينما تلقوا خبر مصرع أخيه هشام في حادث....كارثة بكل المقاييس... كارثة فقدان الابن...كارثة خسارة الأخ.... كارثة ضياع العائل.... كارثة غيرت حياة تلك الأسرة التي لم تعد تعرف للفرح طعما.... هكذا وجد كريم نفسه في مهب الريح....صار فجأة هو المسئول الأول عن تلك الأسرة....صار مطالبا بعلاج أمه المريضة....صار مطالبا بأن ينفق على تعليم حازم.... صار مطالبا بالمساعدة في تزويج ياسمين.... صار مطالبا بكل ذلك إلى جوار الإنفاق على دراسته....هو الشخص المنزوي دوما و الذي لا يعلم عنه أحد شيئا ولم يطلب منه احد شيئا صار يحمل كل تلك المسؤوليات على عاتقه...أنى له أن يتحمل كل هذا....كيف يقوم بما لا طاقة له به....خنقته المسؤوليات و حطمته المشاكل....ففكر في آخر حل أمامه...فكر في الهجرة....
*****
لم يمضي سوى شهران على قراره بالهجرة حتى هاجر بالفعل إلى الولايات المتحدة....هاجر سرا و سافر كالهارب....وترك لأهله رسالة يوضح لهم فيها كل شئ....هاجر و قد قرر أن يصنع نفسه و يعود سريعا لتحقيق ذاته في موطنه....لكن أمريكا لم تكن أبدا أرض الأحلام كما تخيل....لم يكن يحمل مؤهلا عاليا فهو قد ترك الجامعة و سافر....لم يوفق في الحصول على عمل....صار يجوب الطرقات ويفترش الأرصفة....يأكل النفايات و يعيش كالقطط الضالة.... كان يجلس إلى جوار المتسولين الذين يعزفون عزفا رديئا لألحان شتراوس و موسيقى شوبان.... كان يتسول....صادق المجرمين....احتمى بهم من شرور المجتمع....لا ينسى أبدا يوم أن هاجمت الشرطة معقلهم.... يومها قبض عليه و لم يكن قد ارتكب أية تهمة سوى أنه يقيم معهم وهذا يكفي....عربي و يقيم مع اللصوص ماذا ينتظر الأمريكيون للزج به في معتقلاتهم....هكذا وجد نفسه سجينا في بلد غريب لا يعرف حتى لغته....شعر بالضياع...عاني من الانهيار....
*****
في السجن تعلم كريم الكثير و الكثير....و بالفعل رب ضارة نافعة.... تصادق مع رجل أعمال أمريكي سجن في قضية تهريب و كان يقضي أعوامه الأخيرة في الاعتقال....عطف عليه هذا الرجل و بمجرد خروجهما للحرية صار موظفا عنده....ترقى في المناصب حتى صار مساعدا شخصيا لهذا الرجل....صارت ظروفه أفضل بما لا يقاس....امتلك منزلا وسيارة كما أنه تزوج من امريكية حسناء و انجب ولدا و بنتا أسماهما هشام و منى تيمنا باسمي اخيه و أمه....بالفعل صارت حياته أفضل لكن أكثر ما كان ينغص عليه حياته و يؤرق منامه و يقض مضجعه هو أهله...لكم اشتاق إليهم لكن حبال الود قد قطعت للأبد....لا ينس كيف أنه حينما اتصل بأمه أخبرته أنها لم تنجب من يدعى كريم و أن ولدها كريم قد مات و أغلقت الخط في وجهه....كلما حاول محادثتها يتكرر نفس الشئ....حتى أخوته انكروه....عبثا حاول إقناعهم بأن ظروفه صارت أفضل و أنه يسير على درب الثراء لكنهم لم يهتموا و فضلوا قطيعته....
*****
صار كريم رجل أعمال ناجح....بدأ بمطعم صغير عمل فيه بكل جهد ممكن و بفضل توفيق الله ثم بمجهوداته صار المطعم أكبر ثم صار المطعم سلسلة مطاعم و صار من كبار رجال الأعمال العرب في الغرب....
*****
رشف رشفة أخيرة من كوب القهوة ثم أطلق زفرة حارة من الأعماق.... و قد أيقن بداخله أنه ربما قد كسب الملايين لكنه خسر أمه و أخوته.... ربما قد كسب الثروة و الجاه لكنه قد خسر نفسه.... أطلق زفرة اخرى و قد تأكد أن حياته لم تكن سوى سلسلة من الأحداث المتصاعدة....لم تكن سوى متتابعة من الأمواج المتلاطمة.....لم تكن سوى كريشيندو....

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2008

الكابوس


لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يستيقظ فيها مدحت مفزوعا غارقا في العرق البارد.... هو على هذه الحال منذ حوالي الشهرين.... تقريبا لم يعد ينام.... لم يعد يهتم بمظهره.... ردود أفعاله صارت أبطأ.... اهتمامه بعمله قد قل.... أنه بالفعل يعاني....الكوابيس تهاجمه كل ليلة.... كل ليلة كابوس جديد يختلف عن سابقه.... كل ليلة يستيقظ قرب الفجر مفزوعا مختنقا مجهدا كأنما كان في ميدان للقتال.... كل ليلة تحترق فيها أعصابه بكابوس جديد و فزع متجدد.... كل ليلة يعاني...
*****
مدحت صديق لي منذ أيام الدراسة البعيدة.... كنا جيرانا... و منذ أمد بعيد و كلانا يعلم أنه النصف الآخر للآخر.... حتى بعد الدراسة الثانوية التحقنا بنفس الكلية....درسنا الصيدلة و منذ خمس سنوات التحقنا بالعمل في نفس الشركة....علاقة روحية لا تنفصم نشأت بيننا منذ المهد و ستسمر حتى اللحد.... أصدقاء طفولة و زملاء عمل...هذه هي علاقتنا.... لكن مدحت دائما ما كان يخفي الكثير عني....فلم يحكي لي شيئا عن تلك الكوابيس التي تراوده كل ليلة....لكن بعد أن فاض به الكيل قرر الاستعانة بشخصي.....
*****
كانت عقارب الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحا بقليل حينما استيقظت على رنين الهاتف الملح.... حينما أجبت وجدت مدحت هو المتصل.... أخبرني أنه بحاجة إلى طبيب نفسي.... اندهشت بشدة.... مدحت إنسان متزن إلى أقصى حد....لكنه أخبرني في اقتضاب أنه يعاني و بشدة من الكوابيس اليومية.... وأن الحياة صارت لا تحتمل.... استعانته بي كانت مبررة لأني أساسا أعمل في الدعاية على بعض أدوية الأمراض النفسية ((psychatric ))....لذا اقترحت عليه اسم الدكتور حسين المراغي أحد أشهر أساتذة الطب النفسي في مصر و الذي تربطني به علاقة قوية بالفعل.... وافق مدحت على الفور و وكلني بأن أحدد له موعدا عنده.... و أنهى المكالمة و ذهب ليستمتع بكابوس آخر....
*****
كان الموعد في التاسعة مساء.... بحكم علاقتي الوطيدة ب د/حسين استطعت أن أحصل على موعد سريعا.... في الثامنة والنصف كنت أقل مدحت بسيارتي....كان مدحت قد طلب مني أن أحضر معه هذه الجلسة لسبب لا أعرفه.... ونحن في الطريق تجاذبنا أطراف الحديث.... كنت احاول أن أشجعه على خوض التجربة... أخبرته أن الشفاء من هذه الكوابيس والهواجس سهل إن شاء الله.... شرد مدحت بذهنه قليلا و بادرني قائلا :-" هل تقتنع بالطب النفسي؟!!"....قبل أن أجيب وجدته يكمل حديثه قائلا:- " أنا لا اؤمن به...اعتقد أنه دربا من دروب الشعوذة...هو دجل علمي إن صح التعبير....ماذا يفعل الطبيب النفسي أكثر مما يفعله المشعوذ....يستمع إليك في ملل و أنت تحكي في ملل قصة مملة سمعها ألف مرة و يسجلها على جهاز تسجيل ملول بطبعه ثم يكتب لك دواء تقليدي ممل و يودعك بابتسامة مملة و ينتظرك لجلسة أخرى من الملل.... ليس أكثر....الفارق بينه و بين الدجال...أن الأول يعطيك دواءا كيميائيا بينما يوصيك الأخير بعلاج روحي.... سلسلة من النصب لا تنتهي يا صديقي".....استمعت إليه و سكت لبرهة و أنا أفكر في مدى سوء حالة مدحت قبل أن أقول:- " هل تحب أن نعود أدراجنا؟!!"... اجابني في سأم :-" دعنا ننهي تلك المهمة....لا تنفع و لا تضر".... لا أعرف ما الذي أغضبني....كلامه سبب لي الغيظ...ما دام غير مقتنع بالطب النفسي لم طلب الاستشارة... ولم ورطني مع صديقي الطبيب المرموق....وجدت نفسي أقول له في حكمة غاضبة:- "اسمع يا مدحت.... الطب النفسي فرع محترم جدا من فروع الطب... أنت شخص لا تعترف سوى بالمادة بينما الطب النفسي لا يتعامل معها...لكنه يتعامل مع ثوابت و له علماء أجلاء أفنوا عمرهم في دراسته.... أمثالك لا ينجح معهم العلاج النفسي لثلاثة أسباب...أولا..يدفعهم غرورهم الشخصي إلى التفكير بأنهم شخصيات غامضة يجب أن يستعصي فهمها على البشر....ثانيا...يعامل الطبيب كعدو له فلا يخبره بكامل أعراضه و يحاول تضليله....ثالثا.... من أهم سبل نجاح العلاج الاقتناع به و الحصول على الإيحاء و الطاقة الإيجابية المنبعثة منه...و طالما أنت غير مؤمن به بل و تكرهه فلن ينجح العلاج معك."....ثم صمت لالتقط أنفاسي....دهش مدحت لفترة ثم غمغم بكلمات لم أفهمها ثم آثر الصمت....
*****
كان د/حسين معترضا على حضوري للجلسة لكن مدحت كان مصرا... فاضطررت للحضور و للعلم لم اكن مهتما بما أسمع....أخذ مدحت يقص على د/حسين كل ما مر به من كوابيس.... حكى له كم من مرة يرى شخصا يحاول أن يطير عنقه بسيف.... حكى له عن شخص يحفر له شركا.... حكى له عن شخص يطعنه من الخلف....حكى له عن شخص يدفعه من فوق الجبل....تنهد مدحت و أطلق زفرة حارة ثم قال في اسى:-" لقد تعبت يا دكتور.... صرت انتظر كل ليلة مشهد موت جديد يضاف إلى ذاكرتي...أية حياة هذه.....لكن كل هذا في كفة و الكابوس الأخير في كفة أخرى"....بدا الاهتمام على وجه د/حسين و ناشده بأن يقص عليه هذا الكابوس...قال مدحت في هم واضح:-" رأيتني أمشي في شارع كئيب مقفر...ثم رأيت جوادا هائجا غاضبا...لا يستطيع صاحبه السيطرة عليه....و طفق الجواد يحطم السيارات و يصيب المارة فخشيت أن يصيبني....اختبأت في مدخل إحدى البنايات في انتظار مرور الجواد....لكني وجدت الجواد يدخل إلى المبني و وراءه عشرون شخص يحاولون السيطرة عليه....لكن من الواضح أنني أنا وجهته....فوجدت نفسي أصعد درجات السلم في سرعة لكني شعرت بيد تمسك بي بقوة و تحاول أن تجذبني لأسفل و تقدمني للجواد....نظرت فوجدته شخصا أعرفه...بالمناسبة هو نفس الشخص الذي يحاول قتلي كل ليلة.... وسمعته يصرخ في الجواد ويقول هلم اقترب...هذه ضحيتك....هذه فريستك...ثم استيقظت فزعا.."..... صمتنا لفترة ثم ابتسم الطبيب مشجعا و أخبره ألا يقلق و ستكون الأمور على ما يرام....
*****
لحظات و رن هاتف مدحت فاعتذر لنا و قام ليرد.... تحدث معي د/حسين و قال:-" هل له أعداء ما...في الحياة ..في العمل...شئ من هذا القبيل؟"...أجبته في ثقة:-" مدحت شخص محترم و مثقف و محبوب من الجميع....لا أعداء له"...ثم فكرت قليلا ثم قلت:-" لكن في الفترة الأخيرة اختارت الشركة ثلاثة من موظفيها المخلصين و رشحتهم للترقية...و قد كان الثلاثة هم أنا و مدحت و زميل ثالث لنا مكروه من الجميع يدعى أسامة....و ذلك باعتبار أننا القياديم في هذه الشركة و أحدنا الأحق بالترقية....لكني بالفعل أعتقد أن أسامة يكيد لكلانا... وبالأخص مدحت لأن خلافا قد نشب بينهما منذ فترة و حبال الود مقطوعة حاليا....اعتقد بالفعل أن أسامة يكيد لمدحت خاصة انه أكفأنا و أقربنا للترقية"....ثم ملت على أذن الطبيب و قلت هامسا كعادة من يخبر سرا أو يحذر أمرا :- " لا يجب أن أؤكد عليك أن هذا الأمر يجب أن يبقى سرا....لو علم أسامة أن مدحت يعالج عندك سيستغل هذه النقطة و يقصي مدحت من الترقية ويحصل هو عليها"....ابتسم د/حسين و أكد أن القسم الذي أقسمه منذ أربعين عام يحتم عليه ذلك....عاد مدحت فصمتنا للحظة ثم بادره د /حسين سائلا :- " قلت أنك ترى نفس الشخص في كل كابوس ...فهل تعرف من هو؟"....رد مدحت في أسى:- " نعم أعرفه"....ثم نظر إلى في حزن وقال :- " إنه أنت يا أشرف".... و خيم الصمت على الغرفة...

الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

ألبوم صور


" د / رمزي" يعاني من الاكتئاب الحاد.....تلك هي الحقيقة التي كان الجميع يتوقعها و أقرها "د / عدلي أبو الوفا" أستاذ الطب النفسي الكبير و صديق العائلة و الدكتور رمزي منذ أكثر من ثلاثين عام....بالفعل توقع الجميع أن يكون ما يمر به "د/ رمزي" أعراض الاكتئاب الشديد..... الكل من حوله يعرف هذا و الكل يحاول مساعدته...لكن لحظة...من هو "د/ رمزي".....لحظات و أعرفكم به....
*****
(( أ.د/ رمزي عبد الملك )) رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة عين شمس))....بهذه الكلمات كان "د/ رمزي" يعرف بها نفسه دائما لأي شخص ويقولها بكل فخر و اعتزاز.... وبمثلها أعرفكم به..... بالفعل قد كان شخصية مرموقة إلى حد بعيد....مشهورا بين جحافل نقاد الأدب و حاضرا بين علماء الحضارات القديمة..... حضر العديد من الندوات .... أجرى الكثير من اللقاءات التليفزيونية و الإذاعية..... كان حجة في علمه و نهمه الشديد للعلم هو من جعله يهتم بدراسة الأدب كدراسة مستقلة بعيدة عن دراسته الأصلية بل و يحرز شهادة الدكتوراة في الأدب الإغريقي من جامعة سالز بورج بالنمسا.....كان بالفعل شخصية ناجحة.... إذن ما الذي زج به في دائرة الاكتئاب اللعين ؟!!!......
*****
منذ ثلاثة أعوام بدأ "د/رمزي" يشعر بأن هناك أيدي خفية تسعى لزحزحته من منصبه.... ولم لا....نجل "د/كمال السيد" تزوج مؤخرا من كريمة السيد عميد الكلية.... ما المانع إذن من الإطاحة به و تعيين "د/كمال" مكانه....ظل يطمئن نفسه أنه لم يستمر سوى عامين في هذا المنصب وأقله هناك عام آخر يبقى فيه إذا لم يجدد له مدة إضافية....و حتى لو فقد منصب رئيس القسم فسيظل أستاذا في الجامعة ولن يتغير من موقفه شئ.....فلينتظر و لا يترقب....
*****
لم يمض سوى أسبوعان – منذ ذلك اليوم الذي فكر فيه في المؤامرة- و أطيح به من منصبه....لم يهتم لكن الطامة الكبرى جاءته في صورة خبر من العميد و من السيد رئيس الجامعة يخبراه أنه قد أحيل للمعاش....لم يصدق في بداية الأمر لكنه علم أنه معاش مبكر .... أو رفد تعسفي كما أسماه....لم يصمت وتوجه بمئات الشكاوى....وفي النهاية....أحيل للمعاش و صار المنزل مكانه....
*****
اليوم يكمل "د/رمزي "عامه الثاني الذي يقضيه مكتئبا..... أولاده تزوجوا و سافروا مع أزواجهم إلى الخارج...زوجته مدام "ثريا" تعمل في إحدى المصالح الحكومية....لذا يقضي النهار كله وحده....لم يكن له أصدقاء و لم يكن مركزه يسمح له بالجلوس على المقاهي....صار صامتا أغلب الوقت...يرفض الطعام و يأبى الحديث.....باختصار كان يرفض الحياة....
*****
في هذا اليوم كانت حالته أفضل ....فكر في شئ يزجي وقته فتذكر عادته القديمة في التصوير و جمع الصور في ألبوم واحد.... كان يحتفظ بألبومه الخاص جدا في خزانته الخاصة حتى لا يطلع إليه أحد....هناك بعض الخصوصيات يخشى أن تعلمها إمرأته....تذكر الألبوم فأخرجه من الخزانة و شرع يتصفحه....كان له عادة غريبة أخرى....كان يكتب تحت كل صورة مناسبتها و تاريخها ونبذة عن علاقته بالأشخاص الظاهرين معه في الصورة....شرع يتصفح و أخد يسترجع الذكريات....
*****
هذه صورته هو و ابنه "جمال".....تذكره و استبد به الضيق....ها هو "جمال" الذي تعب في تربيته يستكثر عليه حتى السؤال....أي ابن هذا...قلب الصفحة فوجد صورة له مع بعض الزملاء ممن كانوا معه في رحلة الدكتوراه في سالز بورج....ها هم من كان يعتقد أنهم أصدقاءه اليوم يتركونه و ينسون كل شئ عنه و يلتفون حول رئيس القسم الجديد....قلب الصفحة فوجد صورة له وسط طلبته...الكل منهم كان يدعي أنه يحبه ويحترمه...لكنه لن ينسى يوم إحالته للمعاش حينما سمع "محسن" طالبه المفضل الذي عامله كابن له يقول لزميله أخيرا قد انزاح الكابوس...بئس النفاق....أخذ يقلب صفحات الألبوم حتى وصل إلى غايته...كانت صورة إمرأة ....متوسطة الجمال تمتلك ملامح هادئة و نظراتها توحي بالذكاء....كتب تحتها...(( كاميليا....حبيبة العمر.... الحب الأول و الأخير....تزوجت و أنجبت....نجحت و فشلت....لكني لم ولن أحب غيرك يا كاميليا )).... ترقرقت دمعة من عيناه....كم أحبها لكن القدر حال بينه وبينها....أسند رأسه على مسند مقعده و شرع يستعيد ذكرياته معها....لم يشعر كم من الوقت مضى لكنه فجأة استيقظ....غارقا في العرق البارد مما جعله يوقن أنه قد نام فترة لا بأس بها.....نظر حوله بعينان لا تريان فوجد الألبوم موضعا بعناية على المكتب ...أمسك به فوجده مفتوحا على صورة كاميليا ووجد ورقة موضوعة في نفس الصفحة....فتحها فوجد رسالة من زوجته تقول فيها (( أنا في منزل أخي....أرجو أن ترسل ورقة طلاقي في أسرع وقت....ثريا ))....حتى الإمضاء لم تزينه بكملة زوجتك وحبيبتك كما كانت تفعل من قبل....واضح أنها قد اتخذت قرارا صريحا لا رجعة فيه....شعر أنه بالفعل قد أخطأ في حقها.... و ها هو السر الذي أخفاه ثلاثين عاما ينكشف ....تهاوى على أقرب مقعد....و أخذ يفكر....و أخذ يبكي....
*****
في ألبوم صور اختزن ذكريات حياته و سنينه كلها..... وفي لحظة واحدة هدم حياته...ألبوم صور.....