تك تك تك....يدوي هذا الصوت الرتيب في أعماقي....ليست تك مرققة إنما طك مفخمة...نعم هو بعينه صوت اصطدام السائل اللزج بالأرضية الزلقة الناعمة...أعلم هذا الصوت في أعماقي جيدا...ثقب في جداري النفسي...ثقب في السد الروحي...ذلك الجدار الذي نخفي وراءه كل قاذورات أنفسنا...-طك- كراهية....-طك-غضب....-طك- شهوة....-طك- شرور....ثقب في جداري النفسي...ثقب تنساب منه قاذورات روحي فتحدث كل هذا الصخب....ثقب يحاول جيدا ضميري -ذلك الموظف الذي لا يعمل إلا في المناسبات- أن يرتقه و يستعين بكل عماله من الأخلاق و القيم لكني أقسم أنه لا ينجح...يوما سيستحيل الثقب هوة....يوما ستصبح الهوة شقا....يوما سيصير الشق أخدودا... و عندها سينهار السد....حتما سينهار السد....
*****تك تك تك....صوت دقات الساعة الممل...اتدثر بالغطاء لأتقي بردا لا أشعر به....أتقلب في الفراش ذات اليمين و ذات الشمال....هدوء تام من حولي لا يخترقه سوى صوت الساعة الرتيب...النوم يجافيني....أذكر أنني و أنا بعد طالب كانت أمي تبرر أرقي ب :" ما هو عشان مبتذاكرش...ما أنت لو بتذاكر كنت تعبت ونمت على طول...إنما دماغك فاضية مبتفكرش ف حاجة"...لكني أبدا لم أقتنع بهذا المبرر....أيام الامتحانات هي أكثر الفترات استذكارا و حشوا للمعلومات و مع ذلك يجافيني النوم...لم يكن الخوف فقط هو المبرر...بل أيضا كل هذا الزخم المعلوماتي الرهيب الذي يحتشد في عقلي...أرى بعين الخيال كل المعلومات تجري و تمرح داخل تلافيف عقلي و تقيم حفلا صاخبا احتفالا بهذا المأوى الذي قرر أن يحتويها أخيرا....لكني اليوم رجل عامل...مرهق و مجهد....لماذا يجافيني النوم...حينما استعيد أحداث اليوم لا أجد مبررا لهذا الأرق...صديق لي طلب من خدمة تمثل له الكثير بالفعل لكنى رفضت تأديتها دون إبداء الأسباب...و حينما استنكر الباقون و سألوني عن السبب أجبت قائلا :" ببساطة شديدة هو هيستفيد فعلا...لكن أنا لأ...بس كده"....و انصرفت...ماذا أيضا....لا أعتقد تركي لذلك المريض يموت أمام عيني سبب لأرقي....ببساطة أيضا كانت انتهت فترة نوبتي و لم يقم الطبيب الآخر بعمله...كنت أعرف ما يساعده لكني لم أفعله...ليست حالتي و هذا واضح....لا أعتقد أيضا أن تركي ل "علياء" و تحطيمي قلبها هو السبب في سهادي....قابلتها اليوم....كانت تنتظر أن تسمع مني كلاما على غرار "عاوز اقابل بابا بئه"...أو حتى قصيدة أخرى أسرقها من نزار و درويش و أهديها إليها قائلا أنى كتبتها أمس في ضوء القمر....لكني لم أفعل...قلت لها إنني سئمت هذه العلاقة و يجب أن ننهي كل شئ...وصفتها بالغباء و القبح و ضحالة الفكر و السطحية... و تركتها....و قبل أن أرحل استوقفتني...و من بين دموعها قالت :"هل أطمع منك في قصيدة أخيرة على ضوء القمر"....أجبتها ساخرا " و هل للقمر ضوء يا حمقاء"...و تركتها و رحلت....لكني لا زلت لا أعلم ما سبب هذا الأرق...تبا لصوت الساعة اللعين هذا....
*****
تك تك تك....أيضا صوت مفخم ليس مرقق...طك لو شئنا الدقة...دقات متتالية....دقات بطيئة...دقات رتيبة....أقف في شرفتي في الطابق الرابع...الساعة تجاوزت الثالثة صباحا...أرى هذا العجوز يمشي في بطء لكن بثقة...يدق بعصاه التي يتوكأ عليها فيحدث كل هذا الصخب....شيئا في هيئته يثير الريبة....كلب ينبح من بعيد...أجزم أنه نباح تحذيري...يرد عليه كلبا آخر قرر أن يقضي ليلته أمام البناية التي أقطن بها....ينبح الكلب في اتجاه العجوز القادم...لكن العجوز لم يهتم ويواصل تقدمه في ثبات...نباح الكلب استحال عويلا ثم أنينا خافتا يمزق نياط القلوب...ثم توقف الرجل فجأة ومعه توقفت الدقات و بحركة سريعة رفع رأسه نحوي...لا أعلم ما أصابني...تراجعت سريعا و التصقت بحائط الشرفة و قلبي يتواثب بين ضلوعي....العرق يحتشد حول جبيني و أنا أتساءل هي رآني....توقف الزمن لبرهة قبل أن تعود الدقات مرة أخرى...أتقدم في حذر و ألقي نظرة....تبا...إن العجوز ينظر لي في ثبات و هو يدق العصا واقفا في مكانه...ذلك الوغد الخبيث...واصل الدق كي أظن أنه رحل من ثم أنظر فيراني....وجهه مخيف و عليه ارتسمت أشنع ابتسامه ممكن تخيلها....مكث لحظات ثم واصل طريقه تاركني في رعب لا أدري سببه...زارعا في مخاوف الدنيا كلها...استدرت لأدخل غرفتي حين رأيته أمامي مباشرة...كاد قلبي يتوقف...حاولت أن أجري ففشلت...حركة بطيئة لا معنى لها أبدا...حاولت أن أصرخ لكن صوتي لم يخرج من حلقي...ثم انقض...و قبل أن يمسني بلحظة أفقت...وجدت نفسي في فراشي و صوت الدقات مازال يتواصل و تبينت أنه قادم من الشقة المجاورة...نفس الصوت الرتيب الذي لابد أنه طبق النظام الفرويدي و دخل إلى عقلي الباطن ليؤلف له حلما...ممثل ضعيف توجه لمؤلف عملاق ليكتب له سيناريو محترم...فكانت النتيجة حلما أو فيلما غير مكتمل الأركان...جفناي يزنان أطنانا بحق...و تلك الهوة بين النوم و اليقظة تسحبني لكني أقاوم...أرجوك لا أريد كابوسا آخر...أخشى إنني لو عدت فلن أعود....أي أنني لو عدت إلى النوم قد لا أعود إلى اليقظة أبدا...أقاوم و أقاوم و في النهاية ينجح سلطان النوم...انزلقت إلى الهاوية و عدت مرة أخرى...فهل أعود...
*****
تك تك تك....تك تك تك يا أم سليمان...تك تك تك زوجك وين كان...تك تك تك عم بالحقل....عم يقطف خوخ و رمان...
*****
تك تك تك....المدير يعبث بقلمه الزنبركي الأنيق...كنت أخضع للتحقيق...لم يكن مدير المستشفى يلعب دور المحقق إلا في حالات الوفيات الموصومة بالإهمال فقط....عدا ذلك يعهد بهذه المهمة إلى رئيس الشئون القانونية....كان تحقيقا تقليديا لكني أحب أن أنقل لك نص الحوار :-
المدير:- يوم 27 أبريل...كانت نوبتجيتك من -تك- الثانية ظهرا -تك- حتى الثامنة مساءا -تك-..صحيح؟
أنا:- نعم ...(( يجب أن تعلم صديقي أن تك هذه صوت القلم فهو لا يكف عن تلك الحركة أبدا))...
المدير:-الحالة محمد-تك- عبد السلام المرغني....دخلت-تك- المستشفى في الثامنة-تك- إلا الربع و يقال أنها-تك- لم تلق أية عناية و لم تقم-تك- أنت بواجبك و ماتت-تك-...ما ردك؟
أنا:-كنت مشغولا جدا يا سيدي و حينما فرغت كانت نوبتي قد انتهت و اعتقدت أن نائب الآخر قد جاء...و حتى لو لم يحضر فهي ليست مسؤوليتي...فليذهب المريض إلى الجحيم فقد انتهت نوبتي و هذا ليس دوري...
((لا أعلم ما سر هذه العصبية المفرطة التي أصابتني و لكني بالفعل أتوتر حين أخضع للتحقيقات أو المواجهات عموما..))
المدير:-و أين -تك- الإنسانية -تك-؟
أنا:- لم تكن تلك الحالة مسؤوليتي هذا هو قانون العمل و لا دخل للإنسانيات هنا...نحن بشر نتعب ولسنا آلآت...
المدير:- أنت حاد-تك- لكنك صريح-تك-..أنا أحب -تك- الصراحة...انصراف الآن...
حينما خرجت و استشرت أحد زملائي الذين خضعوا للتحقيق من قبل سألني فنقلت له نص الحوار بالضبط...ارتسمت على وجهه نظرات حكمة لم ترتسم على وجهه راهب تبتي في عزلته وقال :-هل تكتك بالقلم و أنت تتكلم؟....كان سؤاله عجيب...كان يتكتك و هو يسأل لكنه كان يستمع إلى إجاباتي بتركيز و لم يقم بتلك الحركة المستفزة...نقلت له خواطري فطمأنني بأن ذلك أمر جيد و عرض حميد...و طالبني بالاطمئنان و عدم القلق و أخبرني أن أقصى عقوبة قد أتعرض لها هي لفت النظر....كان هذا قبل يومين من استلامي لخطاب الفصل النهائي من ذلك المستشفى الخاص الفخم....
*****
تك تك تك....يحاول أن يشعل غليونه بصبر....يعرف أن الغليون يعطيه طابع العالم الموحي بالثقة...ذلك الخيال الفوريدي العجيب و تلك اللوحات التأثيرية الحية ل رينوار و فان جوخ و موسيقى شتراوس و موزارت تنبعث من اللا مكان....جو هادئ يليق بعيادة طبيب نفسي محترم....ها أنت تراني صديقي أتلقى العلاج النفسي و لك وحدك أخبرك السر...أنا مريض نفسي ....لفظة سكيزوفرانيا وحدها لا تؤدي الغرض معي....أجمع كل البارنويا و الجرانيدوزي ((جنون العظمة)) و كل الذهان و أضف إليهم الفوبيا عندها فقط تراني...تذكرت باسما الفوبيا...اعتدت من علماء النفس أن يضيفوا كلمة فوبيا لكل شئ ليصنعوا مرادفا لاتينيا للخوف من كل شئ....و على نفس النسق أطلقت كلمة فوبيا على سعيد البلطجي المقيم في حينا الذي يدق قلبي وجلا من مرآه و الذي كان ينتظر الفرصة المناسبة ليأكلني حيا أو أكون أسعد حظا فيكتفي بقتلي...كنت أطلق على تلك الحالة "سعيدوفوبيا"....يحاول الطبيب النفسي دون جدوى....و صوت التك تك يثير أعصابي بحق...تبا للعلاج و مرحبا بالجنون...
*****
تك تك تك....صوت غريب في سيارتي....لا بالطبع ليست قنبلة زمنية...لكن...آه....ها هو مصدر الصوت....شئ صغير سقط في دواسة المقعد المجاور لي و يرتطم بالباب من الداخل....حركة براونية أبدية جيئة و ذهابا تصدر هذا الصوت....انحنيت التقطه و أنا لا أزال أقود السيارة....و حين رفعت عيني كانت النهاية....إييييييييييييييي....تش...صوت تهشم السيارة و أنا بداخلها...
*****
تك تك تك....صوت رتيب ممل....صوت جهاز رسم القلب و العلامات الحيوية بجواري...أنا في غيبوبة لكني أسمعه....المرقاب يرسم خطوطا بيزنطيه لا يفهمها أحد...حتى الأطباء يعانون في فهمها....أذكر إنني أيام دراستي كنت أحد الطلبة القلائل المستوعبين لرسم القلب...هكذا تحمست و أخذت أشرح لأصدقائي و الرذاذ يتطاير من بين شدقي...الكل استوعبه حقا من شرحي المستفيض...كانت لحظة كإلهام الشعراء لأنني ليلة امتحان رسم القلب تصفحت بعضها فلم أفهم شيئا....و أخذت أتساءل عن معنى تلك الخطوط الهيراطيقية....حينما طالبت أحد زملائي بشرحه لي ظن بعقلي الظنون....
تك تك تك....صوت المرقاب يخبرهم أنني لازلت حيا أرزق....فقدت أنا في عالم آخر يجهلون كل شئ عن مفاتيح العودة منه....ينتظرون إما عودتي منه أو ينتظرون بقائي فيه للأبد...و حينها تتحول التك تك إلى تيييييييييييييييت طويلة مع خط مستقيم بالمرقاب....ينتظرون و انتظر....فهل يعبر أحدنا للآخر أم نظل للأبد على شاطئ الحيرة...
*****