"اصحى يا ضنايا...قوم يا حبيبي"
كان هذا صوت أمي...كان قادما من أعماق بئر سحيقة...ثم أخذ في الوضوح شيئا فشيئا حتى صار جليا للسمع..حينها أدركت أن أمي خرجت من البئر...
فتحت عيني وقلت بصوت مبحوح لا أثر فيه للحروف:"خلاص يا أمه صحيت"
"قوم يا بني عشان تلحق تاكلك لقمة قبل ما تروح المستشفى"
"يا امه خلاص صحيت...حطي انتي الأكل...على ما افوق"
تركتني أمي و ذهبت لإعداد الطعام...اعتدلت في الفراش و أسندت ظهري و أخذت أفكر...أفكر في يومي القادم و في أيامي السابقة...كل الأيام لها شكل ثابت و نمط واحد....نظام روتيني ممل يدور فيه المرء في حلقة مفرغة او كما يقولون "طور في ساقية"....مجرد يوم آخر أذهب فيه إلى المستشفى لتلقي الحالات الصعبة...طبيب الطوارئ دائما ما يعيش على أعصابه لأن من يتجشم عناء الذهاب إلى المستشفى بعد منتصف الليل يكون في حالة هي للموت أقرب....أجلس وحدي ليلا انتظر المشهد الرهيب الذي سيطالعني في أي لحظة...وكالعادة أقف عاجزا عن إيجاد الحلول....رباه...لكم من حالات قابلت كان من الممكن علاجها بشئ من التروي والتفكير المنطقي السليم...لكن من يتروى و هو يرى حوله بكاء اهل المريض و يسمع صراخ المرضى ...من؟!!...مجرد يوم آخر أسمع فيه بكاء الأطفال و صراخ النساء و أنين الشيوخ....مجرد يوم آخر احاول فيه تطبيق مقولة دكتور مصطفى محمود والتي يقول فيها أن الإرادة هي القانون الأعلى فوق جميع القوانين...نسمع ذلك ونفهمه ونتمسك به ونتحدى المرض...لكن من ستقهر أنها إرادة الخالق الأعظم...من يتحدى هذا الجبروت العظيم..من؟!!!....مجرد يوم آخر نقف فيه عاجزين أمام الموت...نرجوه..نستعطفه...لكنها الأوامر ولا يملك سوى التنفيذ...مجرد يوم آخر من محاولة إسعاف المرضى و إنقاذ حياتهم...مجرد يوم آخر من مواجهة أهل فقيدهم و تخبرهم بمصيبتهم....
"يالا يا بني الأكل جاهز"
هكذا انتزعتني أمي من خواطري...فنهضت متثاقلا و أنا أفكر في اليوم الذي سينضم إلى يومياتي كنائب في المستشفى...لكنه سيكون مجرد يوم آخر....