بصعوبة يفتح عينيه.... يتثاءب مليا ثم يتأوه في فراشه الوثير.... ينظر إلى المنبه بجواره فيجد أن الظهيرة قد اقتربت.... يتأوه مرة أخرى ثم ينهض بخطى متثاقلة من على الفراش.... يمشي ببطء نحو الرزنامة المعلقة على الحائط...ينزع ورقة التقويم الدالة على الأمس ليكشف عن يوم جديد يضاف إلى عمره.... ينظر إلى التاريخ.... لم يكن بالنسبة له تاريخا اعتياديا....إنه الحادي عشر من يوليو...يوم مولده.... ها هو يستقبل عام شخصي جديد.... اليوم يتم عامه السبعين من العمر....كما أنه أيضا يتم عامه الخامس و الأربعين من الهجرة....خمسة و أربعون عام مروا عليه منذ أن هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية....ياله من عمر....يمسك بورقة التقويم القديمة و يلقها في إهمال.... يتوجه ببطء إلى المطبخ..... يعد لنفسه بعضا من القهوة...تلك القهوة الأمريكية منزوعة الكافيين التي يعتبرها كل عربي مياه ساخنة لا أكثر.... يحمل كوب القهوة في يده...يتوجه إلى حديقة قصره الفخم....يجلس أمام حوض السباحة الفاخر....يساءل نفسه...كيف تعاقبت عليه كل تلك السنون في هذا البلد....كيف عاش بدون أهله كل تلك المدة....رشف رشفة أولى من القهوة و شرع يسترجع الذكريات....
*****
اسمه كريم المصري.... والده أستاذ صلاح المصري....قد يوحي اسمه بالعظمة لكنه لم يكن سوى موظف بسيط لا يملك من الدنيا سوى أسرته و مرتبه الذي الكاد يكفي متطلبات تلك الأسرة.... نشأة كريم لم تكن نشأة يسيرة و لم يكن طفلا مدللا....هو الابن الثاني بين أربعة ابناء.... ثلاث أولاد و بنت.... فبطبيعة الحال لم يأخذ حظه من التدليل....الابن الأكبر هشام كان يحظي بكل الاهتمام باعتباره الابن البكري...كل طلباته تجاب....الابنة الثالثة هي ياسمين و هي البنت الوحيدة فحظت بكل تدليل وكل أوامرها تنفذ....الابن الأصغر هو حازم فحظي بكل رعاية باعتباره آخر العنقود و كل أحلامه تتحقق.... أما هو فلم يكن سوى ابن من الأبناء....لم يكن له موقعا مميز في الترتيب فوجد نفسه في وضع لا يحسد عليه....لكن هذه التفرقة في المعاملة لم تمر مرور الكرام بل تركت في نفسه أثرا لا يمحى من المشكلات والعقد النفسية مما أثر على علاقته بأهله فنشأ حانقا حاقدا غاضبا كارها.... لكنه في النهاية نشأ....
*****
لم تكن فترة مراهقته من الفترات السعيدة.... فمع خطواته الأولى في المرحلة الثانوية توفي والده فجأة....توفي عائل الأسرة الوحيد.... على الرغم من غضبه الشديد من والده لتفرقته الواضحة إلا أنه كان شديد التعلق به....كان يحبه و يوقره و يعتبره مثله الأعلى....لذا كان لوفاته أسوأ الأثر في نفسه....ترك وفاته ندبة لا يمحوها الزمن في نفس كريم.... عاش مراهقة كئيبة.... فلا أب ولا أصدقاء و لا حبيبة.... كانت أيام دراسته الثانوية من أسوأ أيام عمره....لكن الحال لم يتحسن مع دخوله الجامعة... في تلك الفترة كان أخوه الأكبر هشام قد ترك الدراسة و خرج للعمل كي يعول إخوته و أمه....كان ينفق عليهم و كان نعم الابن البار بأهله.... ألحق كريم بالجامعة و رفض تماما أن يترك كريم دراسته و يخرج للعمل ..مع أن كريم لم يعرض أساسا أن يعولهم...لكن هشام كان نعم الأخ بحق...
*****
كانت تلك الفترة من أكثر فترات حياته استقرارا.... ولكن كالهدوء يسبق العاصفة...و كالجزر يسبق المد.... حدثت الفاجعة التي غيرت حياته.... حينما تلقوا خبر مصرع أخيه هشام في حادث....كارثة بكل المقاييس... كارثة فقدان الابن...كارثة خسارة الأخ.... كارثة ضياع العائل.... كارثة غيرت حياة تلك الأسرة التي لم تعد تعرف للفرح طعما.... هكذا وجد كريم نفسه في مهب الريح....صار فجأة هو المسئول الأول عن تلك الأسرة....صار مطالبا بعلاج أمه المريضة....صار مطالبا بأن ينفق على تعليم حازم.... صار مطالبا بالمساعدة في تزويج ياسمين.... صار مطالبا بكل ذلك إلى جوار الإنفاق على دراسته....هو الشخص المنزوي دوما و الذي لا يعلم عنه أحد شيئا ولم يطلب منه احد شيئا صار يحمل كل تلك المسؤوليات على عاتقه...أنى له أن يتحمل كل هذا....كيف يقوم بما لا طاقة له به....خنقته المسؤوليات و حطمته المشاكل....ففكر في آخر حل أمامه...فكر في الهجرة....
*****
لم يمضي سوى شهران على قراره بالهجرة حتى هاجر بالفعل إلى الولايات المتحدة....هاجر سرا و سافر كالهارب....وترك لأهله رسالة يوضح لهم فيها كل شئ....هاجر و قد قرر أن يصنع نفسه و يعود سريعا لتحقيق ذاته في موطنه....لكن أمريكا لم تكن أبدا أرض الأحلام كما تخيل....لم يكن يحمل مؤهلا عاليا فهو قد ترك الجامعة و سافر....لم يوفق في الحصول على عمل....صار يجوب الطرقات ويفترش الأرصفة....يأكل النفايات و يعيش كالقطط الضالة.... كان يجلس إلى جوار المتسولين الذين يعزفون عزفا رديئا لألحان شتراوس و موسيقى شوبان.... كان يتسول....صادق المجرمين....احتمى بهم من شرور المجتمع....لا ينسى أبدا يوم أن هاجمت الشرطة معقلهم.... يومها قبض عليه و لم يكن قد ارتكب أية تهمة سوى أنه يقيم معهم وهذا يكفي....عربي و يقيم مع اللصوص ماذا ينتظر الأمريكيون للزج به في معتقلاتهم....هكذا وجد نفسه سجينا في بلد غريب لا يعرف حتى لغته....شعر بالضياع...عاني من الانهيار....
*****
في السجن تعلم كريم الكثير و الكثير....و بالفعل رب ضارة نافعة.... تصادق مع رجل أعمال أمريكي سجن في قضية تهريب و كان يقضي أعوامه الأخيرة في الاعتقال....عطف عليه هذا الرجل و بمجرد خروجهما للحرية صار موظفا عنده....ترقى في المناصب حتى صار مساعدا شخصيا لهذا الرجل....صارت ظروفه أفضل بما لا يقاس....امتلك منزلا وسيارة كما أنه تزوج من امريكية حسناء و انجب ولدا و بنتا أسماهما هشام و منى تيمنا باسمي اخيه و أمه....بالفعل صارت حياته أفضل لكن أكثر ما كان ينغص عليه حياته و يؤرق منامه و يقض مضجعه هو أهله...لكم اشتاق إليهم لكن حبال الود قد قطعت للأبد....لا ينس كيف أنه حينما اتصل بأمه أخبرته أنها لم تنجب من يدعى كريم و أن ولدها كريم قد مات و أغلقت الخط في وجهه....كلما حاول محادثتها يتكرر نفس الشئ....حتى أخوته انكروه....عبثا حاول إقناعهم بأن ظروفه صارت أفضل و أنه يسير على درب الثراء لكنهم لم يهتموا و فضلوا قطيعته....
*****
صار كريم رجل أعمال ناجح....بدأ بمطعم صغير عمل فيه بكل جهد ممكن و بفضل توفيق الله ثم بمجهوداته صار المطعم أكبر ثم صار المطعم سلسلة مطاعم و صار من كبار رجال الأعمال العرب في الغرب....
*****
رشف رشفة أخيرة من كوب القهوة ثم أطلق زفرة حارة من الأعماق.... و قد أيقن بداخله أنه ربما قد كسب الملايين لكنه خسر أمه و أخوته.... ربما قد كسب الثروة و الجاه لكنه قد خسر نفسه.... أطلق زفرة اخرى و قد تأكد أن حياته لم تكن سوى سلسلة من الأحداث المتصاعدة....لم تكن سوى متتابعة من الأمواج المتلاطمة.....لم تكن سوى كريشيندو....