حينما استيقظ محمد ذلك اليوم أدرك أنه
ليس نهاراعاديا...دارهم الريفية البسيطة تعج بالناس وتضج بحركات صاخبة. شعرابن
التسع سنوات أن شيئا ما قد حدث. من مكان ما ينبعث صوت تجويد القرآن للشيخ عبد
الباسط عبد الصمد ( ترسخ في ذهنه فيما بعد أن تجويد عبد الباسط للقران يحمل كآبة
الموت بينما ترتيله له يهز أعماقه إيمانا ويغمره بالبهجة ) بخطوات غير مستقرة تحرك
الصبي في الدار , رجال أشداء لا يعرف معظمهم يجبون البيت وعلى وجوههم ملامح الجد
والخطورة , من غير بعيد رأى أمة تجلس وسط نسوة اتشحن بالسواد وهى مثلهن , منها من
تبكى بصمت ومنها من تطلق بين الحين والأخر صرخة لوعة أشبة بسرينة الإسعاف بينما
امة تعض بأنيابها على طرف طرحتها السوداء كأنها تعانى ألما لا يحتمل انتحى به احد
الرجال جانبا قبل أن يقول له " شد حيلك يا محمد , أنت بقيت راجل البيت دلوقتى
" لم يعلق الصبي .... تركه وأتجه إلى أمه التي ما أن رأته صاحت من وسط دمعتها
" أبوك مات يا محمد " اهتز الصبي بشدة وأدرك أن الأمر جد جلل ... فأمه
وعلى غير عادتها لم تناده بندائها المعتاد..لم تقل له " يا حمادة "
*****************
أبوك مات يا محمد " ظل الصبي
يسترجع تلك الجملة المرة تلو الأخرى وهو مستلق تحت شجرة التوت بحقل أبيه الراحل .
لثاني مرة بحياته يسمع كلمة (مات ) هذه
, لم يكن يفهم معنى أن يموت شخص ما لم يكن يفهم ما هو الموت أساسا ؟ كانت المرة الأولى
حينما مات جدة وهو بعده في الرابعة وحينما استفسر من أمه أجابته قائلة " جدك عند
ربنا يا حمادة , جدك بقا ساكن فى السما " .
ليلتها لم ينم ذهب إلى شجرة التوت واستلقى
تحتها وظل يحدق في السماء يبحث عن وجه جده , فلم يجده .. لعلك غاضب من يا جدي
..... اليوم أبوه صار في ذات موضع جده " أبى في السماء " قالها لنفسه ثم
جال بذهنه انه سمع ذات الجملة من قبل من مجدي زميله بالمدرسة وابن الأستاذ ملاك
حنا مدرس الحساب , سمعها منه حينما أهمل مجدي في حل الواجب فرآه يرتجف خوفا ويضم
كفيه ويهمس " أبانا الذي في السماء ... أنقذنى " .. تذكرها الآن لكن الأستاذ
ملاك لم يمت بعد فكيف يبحث عنه ابنه في السماء ... نظر للسماء مرة أخرى يبحث عن أبيه
وجده والأستاذ ملاك فلم يجد أحدا ... فنظر نظرة في النجوم وأدرك أنه سقيم .
****************
باعت أمه كل شئ تقريبا من اجل سداد
ديون أبيه الراحل ولرتق ذلك الأخدود الاقتصادي الذي زلزل استقرار حياتهم , باعت
البهائم الواحدة تلو الأخرى حتى عنزته الصغيرة – غنيمة – باعتها , ولكنه لم يهتم
كان مكتفى بقطف ما يحلو له شجره التوت بحقل أبيه , لكن استقراره لم يدم طويلا
حينما باعت امه الحقل بتوته وأشجاره حينما علمت أن أخاه الرضيع على مصاب بعيب وراثي
بالقلب وان فاطمة أحد أختيه التوأمين تعانى من شلل الأطفال . لم يحزن على أبيه ,
لم يأبه لفاطمة , لم يجزع لعلى , لكنة كما لم يفعل من قبل على شجرة التوت .
**************
حينما أخبرته أمه أنه كبر ويجب أن يخرج
للعمل لمساعدتها سمع هذا الكلام في رأسه وكأنها تقول له " لقد كبرت ونضجت
يرقتك وأكتمل تحولك , اترك الآن أوراق التوت هذه وطير وأبحث عن رزقك " هكذا
تراه وقد أخذته امة للعمل بحقل أحدهم .. لم يكن يدرى أن الأقدار قد خبأت له مفاجأة
سعيدة .
كان عملي عند الشيخ سالم العوضى وهو
رجل لم يحظ من المشيخة سوى بلحية عملاقة وجلباب قصير وبعض الآيات وخلاف ذلك فهو
رجل فظ غليظ القلب انفض الناس من حوله تاركين حقله شبه خراب .
كان عمل محمد عنده يتلخص في سقى
البهائم وتنظيف حظائرهم ثم ري نباتات المشتل وحرث الأرض الخالية به. أما المفاجأة
السعيدة فكانت في وجود شجرة التوت .
*************
لم يشعر بألم في حياته مثلما شعر
به عندما صفعه الشيخ سالم على وجه وهو يصرخ فيه قائلا " بتسرق من الشجرة يا
حرامى , انا المفروض اقطع أيدك ده ربنا بيقول ( والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما
جزاءا ) .. لم يكن الصبي يفهم معنى السرقة , هو أكل التوت جوعا ليس حتى كتسلية كما
اعتاد أن يفعل مع توت أبيه , ثم أنه من رعى هذه الشجرة وسقاها واعتنى بها حتى آتت أكلها
كل حين بإذن ربها , وهو أكثر من يستحق أن ينعم بخيرها .. آلمته الصفعة لكنه لم يكره
التوت.
************
مات أخوه على , وشعر حينها بالعجز يحيط به حتى
الاختناق . أمه تصرخ بلوعة وأختيه تبكيان لا يدرى جوعا أم حزنا , شعر بأن دارهم
البسيطة قد ضاقت به وأظلمت فخرج يركض . ظل يجرى ويتعثر , يبكى ويتلعثم حتى وصل إلى
موضع شجرة التوت , أقول موضعها لأن الشيخ سالم كان قد استأجر بعض الرجال الذين قاموا
بقطعها لبيع أخشابها .... وعند أطلال شجرة التوت جلس محمد على ركبتيه وضم كفيه قبل
أن يهمس من بين دمعاته " أبي الذي في السماء....افتقدك"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق