أعشق الهدوء.... ليس الهدوء بالمفهوم الدارج عند الناس الذي لايزيد عن كونه عكس الصخب لا أكثر...أنا أعشق الهدوء القاتل...الصمت المطبق....الصمت الذي هو أشبه بالظلام الدامس في ليلة غاب عنها القمر...الهدوء الذي هو أشبه بمقبرة لم تسكن بعد....أعشق الهدوء.... أعشق الوحدة....أعشق الصمت....أعشق الظلام...أعشق نفسي....أعشقني....أعشق أنا...
*****
في طفولتي أعتقد أهلي و كل من حولي إنني طفل غير طبيعي... صامت أغلب الوقت...لا يتحدث مع أحد لا يلعب مع أقرانه من هم في مثل سنه...يجلس بالساعات في غرفته المظلمة المغلقة عليه دون أن يخرج سوى لتلبية نداء الطبيعة.... أنا نفسي لا أدري لماذا نشأت على هذه الطبيعة لكني في قرارة نفسي كنت أشعر بأنني أفضل... ذلك الشعور الممتع حينما تشعر بأنك غريب عن من حولك و مختلف عن كل أقرانك....زادت تلك الحالة بداخلي و تعمقت بجذور شخصيتي حتى صارت أنا و صرت أنا هي....
*****
بعد التخرج قررت أن استقل بحياتي....قررت أن أنفصل عن أهلي و أعيش وحدي في أي مكان بعيد و ناء....قررت أن الوقت قد حان لأستريح من المشاكل الأسرية البسيطة التي تعاني منها كل أسرة....قررت أن الساعة قد دقت لأستريح من صراع أخواتي الإناث عل كل ما هو تافه في الحياة....قررت أن الأجل قد حان لأستريح من كل صخب الحياة مع أشخاص لا ينتهوا من الصراخ حتى يبدأوه من جديد....نعم فبالنسبة لي لم يكن اهلي أكثر من مجرد أشخاص يشاركونني السكن حتى أستطيع أن استقل بحياتي....قررت أن أضع حدا للحياة المليئة بالضوضاء....أن أضع للصخب نهاية....ولم أكن اعلم أنها ستكون البداية....
*****
هل تزوجت؟!!!....ياله من سؤال....بالطبع لم أتزوج....فكرة الزواج بالنسبة لي ليست فكرة مرفوضة....إنها فكرة غير مطروحة من الأساس.... أنى لرجل لا يتحمل صوت أهله و يستغنى عنهم و يستقل بحياته أن يتزوج....أن يحضر شريكا مزعجا في سكنه....و يكون الشريك أمرأة....لا تكف أبدا عن الصراخ....تصرخ مطالبة بحقوقها المادية ....تصرخ مطالبة بمصروف البيت....تصرخ بمطالبة في حقها في المأكل....حقها في الملبس...حقها في التنزه....حقها في الفراش....حقها في الحب....ثم تصاب بالفمينيزم فتصرخ مطالبة بالمساواة و حقوقها المعنوية و حفظ المكانة....ثم يأتي الابن....فلا يفعل شئيا سوى الصراخ....يصرخ رضيعا مطالبا بالطعام....ثم يصرخ طفلا لأنه جرح في اللعب....ثم يصرخ صبيا لأنه تشاجر مع صديقه....ثم يصرخ مراهقا لأن حبيبته خانته....ثم يصرخ شابا لأنه يريد ان يتزوج و يبدأ حياته....و يصرخ و يصرخ و يصرخ و لا يبح له صوت...صدقني....التنازل عن كل هذا نعمة لا تقدر بأثمن اللالئ....نعمة الهدوء....وكان لي ما أردت...
*****
اخترتها بناية صغيرة في منطقة نائية تكاد تخلو من البشر....منطقة من تلك المناطق التي تقترب من الريف....كان المنزل يبعد عن العمران بمسافة معقولة جدا....عليك ان تقطع أكثر من خمس كيلو مترات سيرا حتى تصل إلى الطريق السريع أو أي مكان مأهول بالبشر...ثم تحصل من هناك على وسيلة مواصلات –إذا وجدتها- لتصل إلى وجهتك....لذا كان تقريبا كل سكان العقار يمتلكون سيارات خاصة...و كنت انا منهم...فلا تنس أن عائلتي ميسورة الحال....دعني أصف لك سريعا ساكني تلك العمارة... في الطابق الأول يسكن الأستاذ ملاك عبد الشهيد و هو موظف في مصلحة الضرائب العامة...يعيش بالطبع مع زوجته مارسيل المعلمة و ابنتيه ماريان و ساندي.... أسرة محترمة سعيدة لطيفي المعشر لم يشك أحد منهم قط.... أما الشقة المقابلة لهم فكانت لشركة تعمل في شئ ما و هي مغلقة منذ زمن.....في الطابق الثاني... شقتين...أسكن أحداهما و الأخرى ملك لطبيب يعمل بالخليج و يعيش هو و أسرته هناك و لم أرهم منذ قدمت إلى هنا....في الطابق الثالث و الأخير يسكن الأستاذ طه الشرقاوي و زوجته و هو موجه لغة عربيه متقاعد...تزوج أبناءه و رحلوا و لكنهم يزورونه هم و احفاده كل جمعه لا لشئ سوى ليحيلوا حياتي إلى جحيم بكل الصخب الذي يحدثونه....في الشقة المقابلة يسكن المهندس الشاب حلمي السيد....و هو شخص شاحب دائما تكاد تفقد صوابك هلعا حين تراه....يقال إنه المحكمة برأته من تهمة القتل العمد لزوجته لاعتبارها جريمة شرف....شئ طبيعي أن تقتل زوجتك حين تراها في فراشك مع غيرك.... يقال أيضا أنه مريض نفسي و يتلقى العلاج....أقاويل أقاويل.... لا يفعل الناس سوى نثر الشائعات لذا لا أهتم... الناس يحبون الصخب و أنا أمقته.... الناس يهتمون بالكلام و أنا لا أهتم...لكن ...ليتني اهتممت....
*****
أعتقد أن الأحداث بدأت منذ ثلاثة أشهر....لا أذكر اليوم على وجه التحديد لكن الأحداث بدأت و هذا يكفي....كنت غاديا من العمل في عصر ذلك اليوم حين وجدت سيارتي شرطة و ظباط و جنود و ضوضاء لا تحتمل.... و علمت من أحد الجيران أنهم وجدوا جثة عم سلامة البواب الصعيدي الطيب في غرفته مقتولا ...ثم مال علي و همس في خطورة: " لا أريد أن اثير رعبك...لكنهم وجدوا الجثة مقطوعة الرأس....و الأدهى أنهم لم يجدوا الرأس بجوار صاحبها....اختفت و كأنها تبخرت"....لا أكذبك القول...سرت في جسدي قشعريرة غريبة بعد هذه الكلمات....و لم لا؟...نحن في منطقة نائية و ما حدث لعم سلامة الطيب الشهم قد يحث لي أيضا.... لا أهتم بمصير الآخرين لكني أخاف على نفسي....و اتضح أن كل سكان البناية يفكرون مثلي....فاصدر الأستاذ ملاك قرار حظر التجوال على زوجته و بنتيه.... و لم يغادر المهندس المختل ولا الموجه المتقاعد شققهم لبضعة أيام....و كذلك أنا....لكن الشرطة طمأنتنا بأن عم سلامة الصعيدي الطيب الخدوم كان في الأصل هاربا من ثأر قديم في قريته الصعيدية البعيدة و أن مطارده عثر عليه و قتله و مثل بجثته و فصل الرأس و اختفائها أكبر دليل على الروح الانتقامية التي يتمتع بها القاتل....بالطبع صدقنا رجال الداخلية الأفاضل...صدقنا و عدنا لممارسة حياتنا بصورة طبيعية...و ليتنا ما صدقنا و ليتنا ما عدنا....
*****
وقعت الحادثة الثانية بعد الأولى بإسبوعين..... و كانت في إحدى أيام الجمع...إحدى جرعات التعذيب الإسبوعية التي يقدمها لنا أستاذ طه عن طريق دعوة أبنائه و أحفاده للغداء في هذا اليوم....يومها كان الأحفاد-و عددهم أربعة..بنتين و ولدين- في قمة عطائهم من الصخب حتى ظننت أنهم يتعاطوا المنشطات....لم يتركوا بابا لم يقرعوه ولا لوح زجاج إلا و كسروه....و في الساعة الرابعة عصرا سمعت طرقات الأطفال القوية على باب المهندس الشاحب....أي رجل متزن كان سيترك الأمر يمر...لكن من قال إنه متزن....لقد رأيته يفتح الباب....كان ثلاثة من الأطفال قد جروا و اختبئوا في مكان ما...لكنه عندما فتح الباب وجد سارة الطفلة الجميلة تقف و تنظر له في تحدي... رأيته ينظر لها نظرة نارية...أقسم أني رأيت الشرر يتطاير من عينيه....لكني لم أهتم بما سيفعله مع الفتاة...أي عقاب متاح فهي تستحقه هي و الشياطين الهاربين الثلاثة....أغلقت بابي و لم أتابع ما يحدث....
في تمام السادسة وجدت الاستاذ طه وابنه الدكتور علي يطرقون بابي... وحينما فتحت لاحظت وجومهم و لوعتهم....سألوني عن سارة و هل رأيتها أم لا....و علمت أنها مختفية منذ الرابعة و ان الأطفال لم يروها و بحثوا عنها ولم يجدوها....خرجت مع الرجال أبحث عن الطفلة ...كل منا يبحث في مكان بمفرده....بحثنا في كل مكان تقريبا.... في الحقل المجاور للمنزل....في الطريق الترابي الغير ممهد المؤدي إلى الطريق السريع....في بيوت الفلاحين البعيدة المجاورة ....في البئر القريبة التي لا يفعل الأطفال شيئا سوى الغرق بها.... لم نترك حجرا لم نبحث تحته...و النتيجة لا شئ....لكن حين عودتنا كان الهول في انتظارنا.....
*****
حينما عدنا كان الظلام قد توغل... ولكن من مسافة معقولة شاهدنا جسد ملقى على أرض مدخل العمارة ...و على الضوء الخافت للمدخل ميزنا إنها الفتاة نفسها...ميزنا انها سارة لكن مع تغير طفيف في هيئتها... نعم فقد كانت بلا رأس يا صديقي....
لن أصف لك مشاهج اللوعة و الحزن والغضب و الجنون التي أحدثها الجد و الأب و العم و بقية العائلة....فهي أمور معروفة سلفا....لم أسيطر على الرجفات المتتالية التي أصابت جسدي و لا قشعريرة الرعب التي مرت بمؤخرة عنقي و أبت أن تتركه....ماذا فعلت تلك الزهرة اليانعة لتقطف بمثل هذه القسوة.... و تذكرت المهندس المجنون....نعم فهو لم يخرج و يبحث معنا و أحدا لم يدعه للمشاركة لأنه أساسا غير لطيف المعشر... ساورتني الشكوك...هل هو من فعلها.... أم من قتل عم سلامة هو من قتل الطفلة....هل هو من قتل عم سلامة من البداية و ضللتنا الشرطة.... تساؤلات كثيرة دارت برأسي لكني نحيتها جانبا.... إنه وقت المواساة ليس وقت الشكوك...ألست محقا؟....
*****
حينما وقعت الحادثة التالية كان الأمر قد فاق الحد....بعد أسبوعين من مقتل سارة و فشل الشرطة هذه المرة في العثور على القاتل و بعد فرض حظر التجوال من قبل سكان العقار....عثر على الأستاذ ملاك مقتولا بنفس الطريقة.... عثر الأستاذ طه على الجثة و هو عائد من صلاة الفجر من المسجد القريب... و لم يتمالك نفسه من الصراخ.... جن جنون السكان جميعا....حينما تنتظر دورك في الموت لا أعتقد أنه وضع يسمح بالتعقل.... و من ثم فرضت الشرطة سياجا أمنيا -مكون من ثلاثة جنود نائمين أغلب الوقت –لحماية السكان .... بالنسبة للمهندس لم أجد داعيا لأشك فيه هذه المرة.... لقد وجدته يبكي حزنا على الأستاذ ملاك في جنازته...نعم فقد كان رجلا فاضلا.... أعساه يبكي ملاكا...أم يبكي من عذاب الضمير....
*****
كانت ليلة سوداء ..ليلة غاب عنها القمر....حينما سمعت طرقات الباب بعد منتصف الليل بساعة....حينما فتحت متوجسا وجدته أمامي.... يبتسم ابتسامة كريهة...من؟.... المهندس الشاحب طبعا.... لم أشعر بنفسي إلا و أنا أقول له:" ابتعد عني أيها القاتل المختل"....ضحك ضحكة مقيتة ثم قال:" أنا قاتل....أنت عبقري يا صديقي ... و أنا أحب العباقرة".... و دخل .... و في تمام الواحدة و الربع صباحا كانت الصرخة المكتومة و انتهى كل شئ....
*****
كان الأمر واضحا للجميع....استسلمت في سهولة و لم أقاوم.... حينما تجد الشرطة بحوزتك رؤوس آدمية هو أمر يصعب تفسيره...ألا تتفق معي؟!!!!.....
***************
مش عارف هتعجبكوا ولا لأ...بس حبيت شوية اخرج من إطار القصص الاجتماعية و اعمل حاجه زي دي....بس راجع للاجتماعي تاني ان شاء الله... و برضه القصه دي نزلت لأني غبت فترة طويله من غير كتابه و القصه ملهاش مغزى لان مش لازم كل القصص يبقى لها مغزى....
كل سنه و انتم طيبين.... وسنه سعيدة عليكوا يا رب....
رامي سعيد