الأحد، 8 مارس 2009
و هكذا رحلت مريم
*****
كنا كأسرة من الطبقة المتوسطة نقطن في شقة متوسطة في بناية متوسطة في ضاحية متوسطة في منطقة متوسطة.... لله الحمد لم نعان الفاقة في أي وقت من حياتنا....كنا مستورين بما تحمل الكلمة من معان... أبي موظف محترم في الشهر العقاري و أمي معلمة.... لي أخ و أخت يصغراني في السن....و نحن بفضل الله أسرة محبوبة من الجميع....أبي رجل محترم متزن وهبه الله الحكمة و القول السديد... و أمي إنسانة ذكية مجاملة تحترم الغير و تقدر الجيرة....لذا كان من الطبيعي أن تنشأ علاقات طيبة مع الجيران و خصوصا أسرة الأستاذ ملاك حنين و حرمه السيدة فيوليت....قوما محترمين كانوا....و كنت أميل إليهم كثيرا و بشكل خاص ابنهم مينا و ابنتهم التي بالتأكيد خمنت أنها مريم...
*****
طفولة جميلة تلك التي عاشها ثلاثتنا....مريم و مينا و أنا.... مينا كان في مثل عمري و كان نعم الصديق.... أما مريم فكانت تصغرني بعامين... كانت في مثل سن أختي و إن لم تنشأ صداقة بينهما....فنحن بشر و لسنا أحجار متراصة....هكذا ترانا نلعب سويا كل يوم....يصور لنا خيالنا الطفولي البرئ الكثير....نخترع و نبتكر و نستمتع....نجري و نجري و نجري بلا سبب مفهوم و لا غاية محددة....ثم ينهكنا التعب فنعود مع ظلمة المغرب إلى ديارنا مشعثين مغبرين....مرهقين لكن سعداء....
*****
كبرنا جميعا....وصلنا لسن المراهقة....لذا تم حجب مريم عن عالمنا الذكوري و بقت صداقتي بمينا كما هي... نضجت مريم....نضجت جمالا و رقة و عقلا ....فالفتيات ينضجن قبل الفتيان كما تعلم....ففي الوقت الذي ندبر فيه المكائد لبعضنا و نتصارع و نمرغ أجسادنا في الوحل قتالا...تجد الفتيات يحلمن بالغد و ينسجن الروائع و ينظمن الشعر .... لذا نضجت مريم... و كان الحب بداخلي قد نما....نما إلى درجة لم أعهدها....طبعا كنت أحبها منذ الصغر لكن في تلك الفترة اللعينة التي تشتعل فيها عواطفك وصل الحب إلى أبعد مدى....تخيل صديقي أنها حينما سافرت للاصطياف مع أسرتها مرضت و أصابتني الحمى.... نعم أحببتها لكني كنت أعقل كثيرا من أن اندفع لأخبرها....و آثرت الانتظار....
*****
كبرت أكثر و دخلت الجامعة....كنت طوال تلك الفترة أحب مريم في صمت و لم أتبادل معها كلمة واحدة منذ الطفولة...فقط تحية عابرة مع ابتسامة رقيقة مجاملة حينما تراني صدفة في شرفة داري المواجهة لشرفتهم....نعم طوال تلك الفترة كانت الابتسامة تكفيني...و كنت قانع....حتى دخلت هي الجامعة....حينها علمت من مينا أن مجدي ابن خالته مارسيل يود أن يخطب مريم...لك أن تتخيل موقع قلبي في جسدي حينما سمعت تلك الكلمات....لقد هوا إلى ساقي...لكن مينا نفسه كان رافضا تلك الخطبة لان مجدي على حد قوله " واد صايع كده و مش بتاع مسؤولية....مش ممكن اديله اختي"....و قابلت كلامه بالصمت مع أن كل ذرة في كياني تقر بالموافقة و تؤمن على كلامه....و أضمرت في نفسي أمرا...
*****
كنت أعلم طريق عودة مريم من الكنيسة يوم الأحد....فهي متدينة و لم تترك قداسا منذ بلوغها... هكذا انتظرتها في إحدى الشوارع و استوقفتها....لا اتذكر ماذا قلت لها...فأنا أساسا لم أسمع...لقد كان صوت ضربات قلبي أعلى من صوت حنجرتي....لكني لاحظت تورد وجهها الصبوح بحمرة الخجل....فهي على حد قولها أول مرة تسمع اعترافا صريحا بالحب.... وكعادة الفتيات طلبت مهلة للتفكير....و هي الحيلة التي يتعلمنها في الرحم و يرددوها منذ المهد....و بالطبع وافقت و اتفقنا على موعد آخر في نفس المكان بعد اسبوع من تلك اللحظة الخالدة....
*****
حينما أخبرتني أنها تبادلني الإحساس لم أصدق نفسي....مريم تحبني....مريم الملاك تحبني.... و توافق على الارتباط بي....و بدأت مع مريم قصة حبنا الأسطورية....كنت ألقاها كل يومين في الجامعة...نجلس سويا نتحدث....نختلس ساعة من الحب الصادق....نسرق لحظات من العشق الجميل...نحلم سويا...نفرح سويا....نحزن سويا....كثيرا ما كنا نفكر في العقبات الكثر في طريق ارتباطنا الأبدي....عقبات مادية و اجتماعية و مستقبلية....تارة كانت تبكي و أهدئ من روعها و اطمأنها باننا لازلنا سويا....و تارة أتجهم أنا و تهون هي علي...كانت لي السند وكنت لها العون....كانت لي الراحة و كنت لها الأمان...كانت جميلة...كانت ذكية...كانت طموحة....و كانت –تخيل-تحبني....
*****
بمجرد أن تخرجت أنا و نجحت مريم في عامها الدراسي...حتى اتخذنا قرارنا....يجب أن تفاتح مريم أهلها في موضوع ارتباطنا....و تركت لها مهلة الأسبوع حتى تأتيني بردهم.... و لم يمر الأسبوع و جائني الرد...
*****
فاجأني صوت أمي و هي تقول "هو الأستاذ ملاك و جماعته ست فيوليت بيعزلوا ولا إيه؟!"... نظرت إلى أمي مبهوتا و لم أرد....اندفعت إلى الشارع و رأيت العمال يحملون الأثاث إلى سيارة نقل كبيرة....رأيت الأستاذ ملاك يشيح بوجهه عني....مريم دامعة العينين....مينا يقترب مني و يقول "مقدرش على بعدك يا صاحبي....بس انت مسبتلناش خيار تاني....احنا هننزل إسكندرية عند أهل أبويا...و مريم هتحول للجامعة هناك....اشوف وشك بخير...يا صاحبي"... لم يكد ينهي عبارته حتى ركب سيارتهم الصغيرة و انطلقوا خلف سيارة الأثاث...و لم تمض سوى دقيقة حتى غابوا عن ناظري....
*****
كنت أعلم أسباب رفضهم ارتباطي بمريم.... وكنت أعلم سبب رحيلهم...سبب بسيط جدا....هي اسمها مريم ملاك حنين.... و انا اسمي محمد مصطفى السيد....لكن هل هذا سبب كاف للرحيل....هل هذا سبب كاف للفراق؟!...
*****
و هكذا رحلت مريم.... لم أعد أراها.... لم أعد اسمع عنها....لم أعد أعرف أخبارها....لقد رحلت مريم....لكن معها لم يرحل الحب....
الخميس، 12 فبراير 2009
دبلة و كتاب و فنجان قهوة
*****
يتذكرها....يتذكر سنى الحب الأولى....يتذكر اللقاء الأول...صدفة خطط لها القدر و جمعتهما معا...يتذكر إعجابه الأولي بها....يتذكر خفقان قلبه لها....ثم تطور الإعجاب...صار هياما...صار شرودا ليليا...ثم صار حبا جارفا....يتذكر أول مره اعترف لها بحبه....كانت في نفس الكافيه الذي يجلس فيه الآن....يتذكر تورد وجهها الصبوح بحمرة الخجل....يتذكر تلعثمها في القول و تعثرها في الرد....يتذكر أيام الارتباط الأولى....يتذكر خططهما و أملهما في مستقبل مبهر و غد مشرق...يتذكر أحلامها التي كان عمادها لؤلؤ محشو بالمرمر و مكسو بالحرير....يتذكر كيف كان يختطف قبلة سريعة من وجنتها الرقيقة....يمسك بيدها البضه الندية...يهمس في أذنها "بحبك يا نرمين"....تبتسم في خفر قبل أن تقول في رقة " أنا أكتر"
*****
يخرجه من خواطره صوت النادل و هو يقول "قهوة كالعادة يا فندم؟!"....يهز رأسه في عدم اكتراث أن نعم....و من ثم ينصرف النادل....لم يتعجب من كلمة كالعادة....فلقد مضى شهرين كاملين و هو يأتي هنا كل يوم في نفس الموعد و لم يغير أبدا مطلبه...كل مرة يطلب قدحا من القهوة....حتى صار سؤاله نوعا من الروتين ليس إلا....يعود إلى شروده....يبحر في بحر خواطره....يتذكر يوم خطبتهما....يتذكر اعتراض أبيها و أمها على خطبتها من شاب في مقتبل العمر لا يملك حتى تكلفة حياته ولا قوت يومه....لكنها تمسكت به و وقفت في وجه الجميع و هي تردد "مش هتجوز غير يوسف...حتى و لو متجوزتش خالص"....و لم يملك الأهل سوى الانصياع لرغبتها....يتذكر الدبلة الذهبية التي أحاط بها بنصرها الأيمن...كانت هي الشاغلة الذهبية الوحيدة التي ابتاعها لها... و كانت راضية...قانعة بالحب و مكتفية بالعشق....كانت أحيانا تغضب من تراخيه في البحث عن مسكن و أثاث و مال....كانت تتشاجر معه.... و يتذكر –لعجبه- كيف كان يحب شجارها معه...كانت حينما تغضب تتورد وجنتيها و يخرج صوتها مخنوقا بالبكاء كالأطفال قبل أن تتنهد في عمق و تطلق زفرة حارة ... كان يقابل ثورتها في هدوء....كان يشعر أنها طفلته....ينتظر حتى تهدأ تماما ثم يطلق دعابة فتضحك فيطمئن إلى أن الطريق الملكي إلى قلبها ممهد و معبد....من ثم يلثم وجنتها الرقيقة معتذرا قبل أن يمسك كفها الأملس و يهمس على أذنها "بحبك يا نرمين"...ترد في تدلل" و أنا كمان"
*****
يرتشف جرعة من القهوة المركزة التي أحضرها النادل و ينظر إلى الكتاب الذي لم يقرأه قط لكنه يحتفظ به على سبيل الذكرى..فقد كان أول هدية يتلقاها منها....يتنهد من الأعماق قبل أن يعود لسبر أغوار الذكريات....يتذكر التبدل المفاجئ الذي طرأ على علاقتهما....لم تعد رومانسية حالمة كعهده الدائم بها...بل صارت دوما تذكره بالماديات...زاد الشجار و زاد ضغط الأهل....كثيرا ما كان ينجح في قمع غضبها المتأجج و كان يعرف كيف يهدئ من ثورة أهلها... و كعادته كان يتحمل ثورتها في صبر قبل أن يمارس طريقته المعهودة في تهدئتها قبل أن يهمس في أذنها "بحبك يا نرمين"...لكنها لم ترد...
*****
يتذكر آخر لقاء بينهما كأنه كان بالأمس....نرمين تقابله في ميدان عام على عكس كل لقاءاتهما الهادئة....تتكلم و تتكلم....تعبر عن سخطها على تراخيه و ضيقها من بلادته....يتحمل ثورتها و يقمع غضبه الشخصي المغلف بشعور بالعجز و المبطن بأنهار من الضعف....تتكلم و تتكلم قبل أن تخلع الدبلة عن بنصرها الأيمن و تناوله إياها و هي تقول " دبلتك اهه....احنا مش لبعض يا يوسف"...ثم ترحل في صمت...يراقبها و هي تعبر الطريق...تعبره في جمال زهرة تفتحت لتوها....تعبره في رشاقة غزال خرجت من الأدغال....تعبره في خفة لبؤة تنقض على فريستها....راقبها إلى أن عبرت الطريق...لم تلتفت إلى الخلف قط...ينظر إليها و إلى الدبلة غير مصدق قبل أن يغمغم في حزن " بس أنا بحبك يا نرمين"....لكنها لم تسمع...
*****
يرشف رشفة أخيرة من قهوته و ينظر بلا اكتراث إلى كتابه....ثم يخرج الدبلة التي احتفظ بها منذ هذا اليوم..احتفظ بها لينظر إليها كل يوم و يتذكرها رغم أنه أصلا لم ينسها....لقد مضى ما يقرب من الشهرين على آخر لقاء و هو بعد يعيش في ألم....ينظر من النافذة....ثم يخفق قلبه في عنف....أنها هي...نعم هي....تمشي مع أحدهم....تتأبط ذراعه و تضحك في مرح....أنه يقترب من أذنها و يهمس...يمسك بكفها الناعم...يداعب شعرها البني المنسدل...أبهذه السرعة نسته؟!...أكان كل هذا الحب وهما؟!....هل عاش حلما و أفاق على كابوس؟....خفق قلبه في عنف....زفر زفرة حارة...من عينيه نزلت عبرة حارقة....ثم نهض....تحرك صوب الباب كالمرنح و غادر المكان....غادره و هو يعلم أنه لن يعود إليه ثانية....و على الطاولة ترك وراءه كتاب و قدح قهوة و بعض المال و... و دبلة دهب..
الثلاثاء، 3 فبراير 2009
موعد السبع سنوات
*****
كنت أعمل في صيدلية د\نجدت رزق الله .... لم يكن رجلا لطيف المعشر...لكنه ليس بالشخص السيئ.... لكن أسوأ ما في الأمر كان وجود الصيدلية في قرية ريفية مصرية أصيلة تدعى "ميت أبو علي".... كئيبة كانت تلك القرية....صامتة هادئة حزينة متوجسة خائفة....لا سيبل فيها للمرح سوى ذلك المقهى المتواضع القريب من الصيدلية و الذي يغلق أبوابه مع تمام العاشرة مساءا.... عتيقة كانت تلك القرية....قديمة بالية مظلمة متخلفة نائمة....لكني و للأسف كنت بها و أعمل....
*****
لم أعمل هناك سوى منذ شهر تقريبا.... كنت باختصار وافد جديد على تلك البلدة و لم أتعرف عليها و لا على تاريخها بعد...و العمل الليلي أساسا لا يتيح لك رفاهية المعرفة و لا يمنحك متعة العلم....كنت أشغل نوبتجية الليل في تلك الصيدلية التي لاتنام و تقدم خدمتها على مدار أربع و عشرين ساعة لأشخاص وهميين....أنا صيدلي؟!!....لا لست صيدليا.... أنا أحمل شهادة متوسطة و لكني لم أجيد شيئا سوى العمل في الصيدليات منذ تخرجي....إن الأمر يعتمد فقط على الخبرة و يتجاوز حدود الشهادة الجامعية العقيمة....لكني مع خبرتي الغير قصيرة كنت أمقت العمل الليلي....حيث الزبون الواحد كل ساعتين و حيث لا تجد من تتحدث إليه....نعم يأتيك زبون يبتاع شيئا ما ثم يثرثر معك في كل ما لا تفهمه أنت و لا يفهمه هو....ثم يتنهد و يزفر و يحييك و ينصرف.... و تنصرف معه كل معالم الدفء البشري حتى و لو كان أحمق....
*****
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل....حينما دخل علي ثلاثتهم....اثنان صحيحان و يستند إليهما ثالث مصاب بشدة.... لم أتكلم و لم يتكلما....الصورة أبلغ من أي تعبير....و غلب الفعل القول....صامتا قمت بعملي و ضمدت جراح هذا المصاب على القدر الذي تسمح به خبرتي.... لم يكن يقوى على الكلام....جروح في رأسه و أماكن متفرقة في جسده....اي حادث فعل به هذا....التفت إلى الاثنين الآخرين و سألتهم.... فأجاب أحدهم في ذعر و قد اتسعت حدقتا عينيه " لقد كنا في بيت البدراوي حينما ....."... لكن نظرة صارمة من الشخص الآخر منعته من الاسترسال....و اضح أنه قائد المجموعة....لم أستكمل الحديث و لم أتقاضى أجرا و رحلوا من حيث أتوا....رحلوا لكنهم تركوا لي تذكارا بسيطا....تركوا لي الحيرة و القلق....
*****
بيت البدراوي....شرعت أفكر في هذا البيت....منذ أتيت إلى هذه القرية و أنا أسمع أقوالا مبعثرة عن هذا البيت...لم لم يسكنه أحد رغم أنه يعتبر تحفه معمارية و مهجور منذ أكثر من خمسين عام؟!!....لقد تناثرت الأقاويل حول أشباح تجوبه ليلا و شبح منتقم يبحث عن ضحايا و كلام من تلك الترهات...لا لم يكن الأهالي يرددون الآيات أو يرسمون الصليب حينما يمرون بجواره...لقد كان منزل مسالم جدا لكن الأساطير تنتشر و تتناقلها الأجيال...المصريون عموما يحبون حكايات العفاريت و يتمتعون بخيال خصب...و حينما تسأل أحدهم هل رأى عفريت يوما يجيبك بتحد"لم أر... ولكني سمعت".... و إذا سألت كل المصريين نفس السؤال ستجد نفس الرد حتى إنك تتساءل عن هذا المعجز الذي رأى العفريت و أسمع به كل البشر....لكن هل بالفعل بيت البدراوي هذا مسكون.... وهل بالفعل كان هؤلاء الثلاثة بداخله حينما حدث لهم شيئا ما أصاب أحدهم أم ماذا حدث لهم بالضبط؟!!...أفكار كثيرة دارت برأسي قبل أن تطير مع ما يطير...
*****
عم "خليفة" الخفير العجوز يجوب القرية ليلا....هو ليس خفيرا يثير الرعب في القلوب قدر ما يثير الشفقة....كانت القرية تعتمد على النظام الناصري في الحراسة....ذلك النظام الذي يعتمد على ساعات معلقة تُملأ كلما مرت ساعة...حيث توجد ساعة في كل شارع يجب أن تُملأ ...فبفكرة حسابية بسيطة جدا توجد حوالي ست ساعات في كل منطقة موزعة على ست شوارع أو حارات....و على الخفير ملء تلك الساعات كل ساعة و إلا عوقب....فهكذا تضمن أن الخفير يمر على الشارع مرة كل ساعة حيث يجب أن يملأ ساعة كل عشرة دقائق....فبذلك يقضي الخفير ليلته و هو يجوب الشوارع و يحمي الناس و لا يقضي الليل في النوم أو تدخين الحشيش....نظام رائع بالفعل....لم تكن القرية تعتمده بالمعنى الحرفي...لكن عم"خليفة" كان يستخدمه ليحمس نفسه على العمل و تكون له ذريعة في أن يجوب الطرقات ليلا.... فبرغم كبر سنه و شيخوخته التي لا ريب فيها إلا إنه كان عاشقا للعمل كارها للراحة....لكن السن له أحكام...فأدخل بنفسه بعض التطورات على الساعات بحيث يملآها كل ثلاث ساعات ليس كل ساعة....عبقري نشيط هذا العجوز... وله دور مهم في نشأة هذه القرية....
*****
كانت الساعة قد جاوزت الواحدة و النصف حينما رأيت عم"خليفة" العجوز يأتي من بعيد...بمشيته البطيئة المتأنية....حياني بابتسامة لطيفة ثم واصل طريقه قبل أن يتوقف و يعود إلي ثانية ...نظر مليا في وجهي ثم قال " أنت غريب...أليس كذلك"...رددت بتثاقل "بلى...وجديد كذلك...لم أمضي هنا سوى شهر واحد"....نظر إلي العجوز مليا قبل أن يقول "إذن لا تعرف ماذا ينتظرك"...ثم أردف " أعد لنا كوبا من الشاي....لا أحب أن يحدث مكروها لمن هم مثلك"....أعددت الشاي الدافئ على عجل و ذهني مشتت بما قاله العجوز.....و مع أول رشفات الشاي الساخن شعرت بالحياة تتدفق في عروقي من جديد لاستعد لسماع كلمات العجوز المظلمة في هذا الشتاء القارس....أخذ العجوز نفسا عميقا ثم قال" أنت سمعت أكيد عن بيت البدراوي"...لم ينتظر الإجابة مني و أردف" البدراوي بك لم يكن شخصا سيئا على الإطلاق....مهيبا كان...قويا كان...لكن قاسيا لم يكن....كان من أرباب الملك و من كبار أعيان البلد.... يمتلك ما لا يمكن حصره...أملاكه في كل مكان لكنه كان يعشق ذلك المنزل هنا و يقيم فيه معظم الوقت.... زوجته رائعة الجمال لكنها كانت ذات أصول تركية فكانت تتعالى كل شئ و لم يحبها أحد قط...ابنه كذلك كان نسخة من أمه...بل أسوأ....أما ابنته فكانت قطعة من الجنة...جميلة و رقيقة و عطوفة و حنون...كل ما هو جميل كان بها....كنت أنا الحارس المقرب للبك...و زاد اقترابي بعد أن أنقذته من موت محقق على يد أحد الفلاحين الذي اغتصب البك أرضهم بطريقة الإقطاع.... كانت حياة مستقرة حين اشتعلت الثورة و تحولت المملكة إلى جمهورية و صادرت الثورة كل أملاك الإقطاعيين...لم يتحمل البدراوي بك...جن جنونه و استل مسدسه ذات الست طلقات و من خارج الدار سمعنا سمعنا دوي الرصاص و بعد دخولنا رأينا ستة جثث... زوجته و ابنه و ابنته الملاك و ثلاث من الخدم....ووقف البك يضحك كالمجنون....قبض الفلاحون عليه ثم أعدم البك....و من يومها و بدأت الأسطورة...شبح البك يظهر و يحيل حياة من يقابله جحيما... كثيرون سكنوا البيت لكنهم تركوه سريعا... وتناثرت قصصا حول شبح منتقم و شبح ضحايا....ثم هدأت الأحداث و صار ظهور الشبح مقنن....صار يظهر كل سبع سنوات"....صمت العجوز أخيرا و كنت أنا لازلت أحاول هضم كل ما قاله قبل أن أقول " و لماذا سبع سنوات"... ابتسم العجوز قبل أن يقول " و لماذا السماء زرقاء و لماذا الشجر أخضر... إنها قوانين وضعت و لا دخل لنا بها"....ثم أردف" بالمناسبة...اليوم هو الموعد.... فقررت أن أحذرك...ألم تلحظ أن البلدة خالية منذ التاسعة...كلهم قبعوا في ديارهم في انتظار أن ينتهي هذا اليوم المشئوم....على العموم هو لا يظهر قط قبل الثالثة صباحا و الساعة الآن الثانية و الربع...أمامك فرصة للهرب و أمامي فرصة للذهاب إلى داري"....قال العجوز كلماته الأخيرة و حياني و أنصرف.... كان رد فعلي غريب جدا...لم أتوقعه أنا نفسي...لقد ضحكت كثيرا جدا...ها هي أكذوبة أخرى يصدقها الناس....و يتناقلوها من جيل إلى الآخر....تبا للجهل و الجهلاء و مرحى بالعلم و هنيئا لمن حصلوا عليه....
*****
"عمرك شفت عفريت قبل كده؟"....."لأ..بس سمعت أن في ناس شافوه"
*****
كانت الساعة تشير إلى الرابعة....كنت قد احتفلت برجاحة عقلي و ثبات أعصابي مع كل هذه الحكاية و الجو المحرك للخيال...كانت الساعة الرابعة حينما سمعت الخطوات قادمة....خطوات ثابته...مهيبة...خطوات متأنية....ثم رأيته يدخل المكان....مهيبا عظيما كما وصفه العجوز....عيناه حمراوان بلون الدم...يرتدي عباءة لم أر في مثل جمالها...إنه يقترب في تؤدة...ملامحه جامدة و لا أرى اختلاجا واحدا في وجهه...يقترب و يقترب و يقترب...أكثر فأكثر فأكثر....لم أر ما حدث بعدها...سقطت مغشيا علي...إن عصبي الحائر((vagus nerve
)) يعمل بكفاءة غير عادية...
*****
حينما استيقظت رأيت "د/نجدت" ينظر إلي في قلق...قلت كلاما مبهما عن بيت و بدراوي و موعد...ضحك "د/نجدت" مليا قبل أن يقول "هل صدقت....لقد كانت مزحة...تبا لأهل القرية هؤلاء...لقد عرفوا إنك حديث العهد بقريتهم فقرروا أن يمزحوا معك....و قد شربت المقلب....تعيش وتاخد غيرها"...
*****
حينما رويت تلك القصة على صديقي لم يضحك كما توقعت...بل نظر إلى في جدية و قال" هناك ثلاث نقاط في قصتك جعلوني أشك في كونها حقيقة و ليست مزاحا...أولا من أين لفلاح فقير أن يأتي بمثل تلك الملابس الفاخرة التي رأيتها و التي هي حتما تخص البك...ربما سرقها...ثانيا...قلت أن القرية تعتمد النظام الناصري في الحراسة و البك يحقد على الثورة و على عبد الناصر باعتبارهم السبب في إفلاسه و من ثم الكارثة و المأساة و المذبحة التي ألمت به....فمن الممكن أن البك ينتقم منهم لتخليدهم ذكري الناصرية...ثالثا...هل يعقل أن يجرح صديقين صديقهم الثالث بشدة قاربت على موته لمجرد مزحة يلعباها على شخص غريب...لا يا صديقي....أعتقد أن الأمر لم يكن مزحة كما تعتقد"... كانت الابتسامة قد ماتت على شفتي...و حل محلها نظرة رعب في عيني و شحوب خوف على وجهي...لا يجب أن تكون مزحة....يا الهي...يجب أن تكون مزحة....
*****
الاثنين، 29 ديسمبر 2008
وحدي
أعشق الهدوء.... ليس الهدوء بالمفهوم الدارج عند الناس الذي لايزيد عن كونه عكس الصخب لا أكثر...أنا أعشق الهدوء القاتل...الصمت المطبق....الصمت الذي هو أشبه بالظلام الدامس في ليلة غاب عنها القمر...الهدوء الذي هو أشبه بمقبرة لم تسكن بعد....أعشق الهدوء.... أعشق الوحدة....أعشق الصمت....أعشق الظلام...أعشق نفسي....أعشقني....أعشق أنا...
*****
في طفولتي أعتقد أهلي و كل من حولي إنني طفل غير طبيعي... صامت أغلب الوقت...لا يتحدث مع أحد لا يلعب مع أقرانه من هم في مثل سنه...يجلس بالساعات في غرفته المظلمة المغلقة عليه دون أن يخرج سوى لتلبية نداء الطبيعة.... أنا نفسي لا أدري لماذا نشأت على هذه الطبيعة لكني في قرارة نفسي كنت أشعر بأنني أفضل... ذلك الشعور الممتع حينما تشعر بأنك غريب عن من حولك و مختلف عن كل أقرانك....زادت تلك الحالة بداخلي و تعمقت بجذور شخصيتي حتى صارت أنا و صرت أنا هي....
*****
بعد التخرج قررت أن استقل بحياتي....قررت أن أنفصل عن أهلي و أعيش وحدي في أي مكان بعيد و ناء....قررت أن الوقت قد حان لأستريح من المشاكل الأسرية البسيطة التي تعاني منها كل أسرة....قررت أن الساعة قد دقت لأستريح من صراع أخواتي الإناث عل كل ما هو تافه في الحياة....قررت أن الأجل قد حان لأستريح من كل صخب الحياة مع أشخاص لا ينتهوا من الصراخ حتى يبدأوه من جديد....نعم فبالنسبة لي لم يكن اهلي أكثر من مجرد أشخاص يشاركونني السكن حتى أستطيع أن استقل بحياتي....قررت أن أضع حدا للحياة المليئة بالضوضاء....أن أضع للصخب نهاية....ولم أكن اعلم أنها ستكون البداية....
*****
هل تزوجت؟!!!....ياله من سؤال....بالطبع لم أتزوج....فكرة الزواج بالنسبة لي ليست فكرة مرفوضة....إنها فكرة غير مطروحة من الأساس.... أنى لرجل لا يتحمل صوت أهله و يستغنى عنهم و يستقل بحياته أن يتزوج....أن يحضر شريكا مزعجا في سكنه....و يكون الشريك أمرأة....لا تكف أبدا عن الصراخ....تصرخ مطالبة بحقوقها المادية ....تصرخ مطالبة بمصروف البيت....تصرخ بمطالبة في حقها في المأكل....حقها في الملبس...حقها في التنزه....حقها في الفراش....حقها في الحب....ثم تصاب بالفمينيزم فتصرخ مطالبة بالمساواة و حقوقها المعنوية و حفظ المكانة....ثم يأتي الابن....فلا يفعل شئيا سوى الصراخ....يصرخ رضيعا مطالبا بالطعام....ثم يصرخ طفلا لأنه جرح في اللعب....ثم يصرخ صبيا لأنه تشاجر مع صديقه....ثم يصرخ مراهقا لأن حبيبته خانته....ثم يصرخ شابا لأنه يريد ان يتزوج و يبدأ حياته....و يصرخ و يصرخ و يصرخ و لا يبح له صوت...صدقني....التنازل عن كل هذا نعمة لا تقدر بأثمن اللالئ....نعمة الهدوء....وكان لي ما أردت...
*****
اخترتها بناية صغيرة في منطقة نائية تكاد تخلو من البشر....منطقة من تلك المناطق التي تقترب من الريف....كان المنزل يبعد عن العمران بمسافة معقولة جدا....عليك ان تقطع أكثر من خمس كيلو مترات سيرا حتى تصل إلى الطريق السريع أو أي مكان مأهول بالبشر...ثم تحصل من هناك على وسيلة مواصلات –إذا وجدتها- لتصل إلى وجهتك....لذا كان تقريبا كل سكان العقار يمتلكون سيارات خاصة...و كنت انا منهم...فلا تنس أن عائلتي ميسورة الحال....دعني أصف لك سريعا ساكني تلك العمارة... في الطابق الأول يسكن الأستاذ ملاك عبد الشهيد و هو موظف في مصلحة الضرائب العامة...يعيش بالطبع مع زوجته مارسيل المعلمة و ابنتيه ماريان و ساندي.... أسرة محترمة سعيدة لطيفي المعشر لم يشك أحد منهم قط.... أما الشقة المقابلة لهم فكانت لشركة تعمل في شئ ما و هي مغلقة منذ زمن.....في الطابق الثاني... شقتين...أسكن أحداهما و الأخرى ملك لطبيب يعمل بالخليج و يعيش هو و أسرته هناك و لم أرهم منذ قدمت إلى هنا....في الطابق الثالث و الأخير يسكن الأستاذ طه الشرقاوي و زوجته و هو موجه لغة عربيه متقاعد...تزوج أبناءه و رحلوا و لكنهم يزورونه هم و احفاده كل جمعه لا لشئ سوى ليحيلوا حياتي إلى جحيم بكل الصخب الذي يحدثونه....في الشقة المقابلة يسكن المهندس الشاب حلمي السيد....و هو شخص شاحب دائما تكاد تفقد صوابك هلعا حين تراه....يقال إنه المحكمة برأته من تهمة القتل العمد لزوجته لاعتبارها جريمة شرف....شئ طبيعي أن تقتل زوجتك حين تراها في فراشك مع غيرك.... يقال أيضا أنه مريض نفسي و يتلقى العلاج....أقاويل أقاويل.... لا يفعل الناس سوى نثر الشائعات لذا لا أهتم... الناس يحبون الصخب و أنا أمقته.... الناس يهتمون بالكلام و أنا لا أهتم...لكن ...ليتني اهتممت....
*****
أعتقد أن الأحداث بدأت منذ ثلاثة أشهر....لا أذكر اليوم على وجه التحديد لكن الأحداث بدأت و هذا يكفي....كنت غاديا من العمل في عصر ذلك اليوم حين وجدت سيارتي شرطة و ظباط و جنود و ضوضاء لا تحتمل.... و علمت من أحد الجيران أنهم وجدوا جثة عم سلامة البواب الصعيدي الطيب في غرفته مقتولا ...ثم مال علي و همس في خطورة: " لا أريد أن اثير رعبك...لكنهم وجدوا الجثة مقطوعة الرأس....و الأدهى أنهم لم يجدوا الرأس بجوار صاحبها....اختفت و كأنها تبخرت"....لا أكذبك القول...سرت في جسدي قشعريرة غريبة بعد هذه الكلمات....و لم لا؟...نحن في منطقة نائية و ما حدث لعم سلامة الطيب الشهم قد يحث لي أيضا.... لا أهتم بمصير الآخرين لكني أخاف على نفسي....و اتضح أن كل سكان البناية يفكرون مثلي....فاصدر الأستاذ ملاك قرار حظر التجوال على زوجته و بنتيه.... و لم يغادر المهندس المختل ولا الموجه المتقاعد شققهم لبضعة أيام....و كذلك أنا....لكن الشرطة طمأنتنا بأن عم سلامة الصعيدي الطيب الخدوم كان في الأصل هاربا من ثأر قديم في قريته الصعيدية البعيدة و أن مطارده عثر عليه و قتله و مثل بجثته و فصل الرأس و اختفائها أكبر دليل على الروح الانتقامية التي يتمتع بها القاتل....بالطبع صدقنا رجال الداخلية الأفاضل...صدقنا و عدنا لممارسة حياتنا بصورة طبيعية...و ليتنا ما صدقنا و ليتنا ما عدنا....
*****
وقعت الحادثة الثانية بعد الأولى بإسبوعين..... و كانت في إحدى أيام الجمع...إحدى جرعات التعذيب الإسبوعية التي يقدمها لنا أستاذ طه عن طريق دعوة أبنائه و أحفاده للغداء في هذا اليوم....يومها كان الأحفاد-و عددهم أربعة..بنتين و ولدين- في قمة عطائهم من الصخب حتى ظننت أنهم يتعاطوا المنشطات....لم يتركوا بابا لم يقرعوه ولا لوح زجاج إلا و كسروه....و في الساعة الرابعة عصرا سمعت طرقات الأطفال القوية على باب المهندس الشاحب....أي رجل متزن كان سيترك الأمر يمر...لكن من قال إنه متزن....لقد رأيته يفتح الباب....كان ثلاثة من الأطفال قد جروا و اختبئوا في مكان ما...لكنه عندما فتح الباب وجد سارة الطفلة الجميلة تقف و تنظر له في تحدي... رأيته ينظر لها نظرة نارية...أقسم أني رأيت الشرر يتطاير من عينيه....لكني لم أهتم بما سيفعله مع الفتاة...أي عقاب متاح فهي تستحقه هي و الشياطين الهاربين الثلاثة....أغلقت بابي و لم أتابع ما يحدث....
في تمام السادسة وجدت الاستاذ طه وابنه الدكتور علي يطرقون بابي... وحينما فتحت لاحظت وجومهم و لوعتهم....سألوني عن سارة و هل رأيتها أم لا....و علمت أنها مختفية منذ الرابعة و ان الأطفال لم يروها و بحثوا عنها ولم يجدوها....خرجت مع الرجال أبحث عن الطفلة ...كل منا يبحث في مكان بمفرده....بحثنا في كل مكان تقريبا.... في الحقل المجاور للمنزل....في الطريق الترابي الغير ممهد المؤدي إلى الطريق السريع....في بيوت الفلاحين البعيدة المجاورة ....في البئر القريبة التي لا يفعل الأطفال شيئا سوى الغرق بها.... لم نترك حجرا لم نبحث تحته...و النتيجة لا شئ....لكن حين عودتنا كان الهول في انتظارنا.....
*****
حينما عدنا كان الظلام قد توغل... ولكن من مسافة معقولة شاهدنا جسد ملقى على أرض مدخل العمارة ...و على الضوء الخافت للمدخل ميزنا إنها الفتاة نفسها...ميزنا انها سارة لكن مع تغير طفيف في هيئتها... نعم فقد كانت بلا رأس يا صديقي....
لن أصف لك مشاهج اللوعة و الحزن والغضب و الجنون التي أحدثها الجد و الأب و العم و بقية العائلة....فهي أمور معروفة سلفا....لم أسيطر على الرجفات المتتالية التي أصابت جسدي و لا قشعريرة الرعب التي مرت بمؤخرة عنقي و أبت أن تتركه....ماذا فعلت تلك الزهرة اليانعة لتقطف بمثل هذه القسوة.... و تذكرت المهندس المجنون....نعم فهو لم يخرج و يبحث معنا و أحدا لم يدعه للمشاركة لأنه أساسا غير لطيف المعشر... ساورتني الشكوك...هل هو من فعلها.... أم من قتل عم سلامة هو من قتل الطفلة....هل هو من قتل عم سلامة من البداية و ضللتنا الشرطة.... تساؤلات كثيرة دارت برأسي لكني نحيتها جانبا.... إنه وقت المواساة ليس وقت الشكوك...ألست محقا؟....
*****
حينما وقعت الحادثة التالية كان الأمر قد فاق الحد....بعد أسبوعين من مقتل سارة و فشل الشرطة هذه المرة في العثور على القاتل و بعد فرض حظر التجوال من قبل سكان العقار....عثر على الأستاذ ملاك مقتولا بنفس الطريقة.... عثر الأستاذ طه على الجثة و هو عائد من صلاة الفجر من المسجد القريب... و لم يتمالك نفسه من الصراخ.... جن جنون السكان جميعا....حينما تنتظر دورك في الموت لا أعتقد أنه وضع يسمح بالتعقل.... و من ثم فرضت الشرطة سياجا أمنيا -مكون من ثلاثة جنود نائمين أغلب الوقت –لحماية السكان .... بالنسبة للمهندس لم أجد داعيا لأشك فيه هذه المرة.... لقد وجدته يبكي حزنا على الأستاذ ملاك في جنازته...نعم فقد كان رجلا فاضلا.... أعساه يبكي ملاكا...أم يبكي من عذاب الضمير....
*****
كانت ليلة سوداء ..ليلة غاب عنها القمر....حينما سمعت طرقات الباب بعد منتصف الليل بساعة....حينما فتحت متوجسا وجدته أمامي.... يبتسم ابتسامة كريهة...من؟.... المهندس الشاحب طبعا.... لم أشعر بنفسي إلا و أنا أقول له:" ابتعد عني أيها القاتل المختل"....ضحك ضحكة مقيتة ثم قال:" أنا قاتل....أنت عبقري يا صديقي ... و أنا أحب العباقرة".... و دخل .... و في تمام الواحدة و الربع صباحا كانت الصرخة المكتومة و انتهى كل شئ....
*****
كان الأمر واضحا للجميع....استسلمت في سهولة و لم أقاوم.... حينما تجد الشرطة بحوزتك رؤوس آدمية هو أمر يصعب تفسيره...ألا تتفق معي؟!!!!.....
***************
مش عارف هتعجبكوا ولا لأ...بس حبيت شوية اخرج من إطار القصص الاجتماعية و اعمل حاجه زي دي....بس راجع للاجتماعي تاني ان شاء الله... و برضه القصه دي نزلت لأني غبت فترة طويله من غير كتابه و القصه ملهاش مغزى لان مش لازم كل القصص يبقى لها مغزى....
كل سنه و انتم طيبين.... وسنه سعيدة عليكوا يا رب....
رامي سعيد
الخميس، 27 نوفمبر 2008
استدعاء
بملامح غاضبة اجتاز الطبيب الكبير دكتور "ابراهيم الشيخ" أبواب مستشفاه الاستثماري الفخم... كان غضبه واضح و كان أمر مفهوم للجميع... هو لا يرحب أبدا بالاستدعاءات الليلية... و يرى أنه على أي طبيب يوجد في مشفاه أن يبذل قصارى جهده لإنقاذ أي حالة مهما كانت خطورتها دون العودة إليه... و كان دائما ما يختم محاضرته لهم بقوله :-" أمال بدفعلكم فلوس على إيه...عشان تصحوني كل يوم بالليل و اجي اعالج لكم الحالات!!".... دائما ما كان يذكر انه لم يصل لتلك المكانة من فراغ... لم يحقق الثراء من العدم...لقد تعب و اجتهد و تذلل و كافح و و و و ....حتى يصل إلى لقب الطبيب الكبير... لذا كان غضبه واضحا للجميع.... توعد الفريق النوبتجي من الأطباء بجزاء ضخم لو لم تكن الحالة- التي استدعوه بسببها في الرابعة فجرا – تستحق... قابله أحد الأطباء الشبان بوجه ممتقع و قال له:-"سيدي..حمدا لله أنك استجبت... أن الحالة خطيرة بالفعل و.."....قاطعه د/إبراهيم في صرامة:-" أرجو أن تكون حالة تستحق"...لم يرد الطبيب الشاب بل خفض وجهه و لم يجد ما يرد به....بادره د/إبراهيم قائلا في حزم :-" ما الحالة؟!"...تردد الطبيب الشاب قبل أن يجيب:-" إنه...إنه مصاب في حادث سيارة"...ثم أردف في سرعة:-"لكنه مصاب بشدة يا سيدي....أخشى أنه فات أوان الإنقاذ"....لاحظ د/إبراهيم الوجوه الممتقعة من أطباء و ممرضات و عاملي المستشفي تنظر إليه في رعب.... ابتسم في سره...لكم هو مهيب!!..لكم هو جبار!!.... حينما وصل الاثنان إلى غرفة الطوارئ حيث لا يزال المصاب مستقرا فتح الطبيب الشاب الباب....نظرة واحدة كانت كفيلة بأن يتغير كل شئ....بالنسبة للعاملين في المستشفى لم يكن ذلك المصاب سوى المصاب في حادث....لكن بالنسبة له لم يكن هذا المصاب سوى ابنه.....هنا فقط علم د/ ابراهيم أن الحالة تستحق...
************
تنويه:- معلش يا جماعه القصه المرده دي قصيره اوي....للأسف انا مكنتش عايز كده....انا عامل مجموعة قصص قصيره اوي من نفس القطعيه بس كنت ناوي انزل اربعه او خمسه في البوست الواحد مع بعض...لكن نظرا للظروف المرضيه الشديده و اللي معاها مش عارف اطلع صوتي حتى... ويتزامن مع ذلك ارهاق شديد عشان انا ملتزم اوي –بحيلتها- و اروح مستشفى الاطفال في صيدناوي كل يوم و كمان اروح عملي الباطنه و انا تعبان كده....فالحمد لله انه اداني القدره اني اكتب الحدوته دي كمبيوتر و قلت انزلها عشان انتو وحشتوني و بقالي كتير منزلتش...بس قريب ان شاء الله لما اخف هنفذ الفكره اللي قلت عليها دي....حتى كنت هسميها قصاصات او مثلا استدعاء و قصص اخرى...على هذا النسق يعني...لكن هي فعلا للأسف قصيره جدا ..قصاصة يعني... وانا ممكن ان شاء الله اضمها للمجموعه لما اكتبهم كلهم وورد و انزلهم مره واحده ان شاء الله...
شكرا لكم و دمتم بكل خير........
الأحد، 2 نوفمبر 2008
Interview
في تمام السادسة صباحا انطلق المنبه في الرنين .... بصعوبة فتح عصام عينيه...تنهد من الأعماق ثم اسكت الجرس المزعج قبل أن يعتدل في الفراش....أخذ يفكر قليلا....اليوم موعد المقابلة المهمة لاختيار موظفين جدد..او كما يحلو لهم تسميته ((interview))....بالنسبة لعصام لم تكن تلك المقابلة هي الأولى له....لكنه أخفق في الكثير من قبلها و اليوم يطمح إلى أن يذوق حلاوة النجاح للمرة الأولى.... يطمع أن يكون مسئولا عن نفسه....يحلم بمستقبل مشرق و أوضاع أفضل....يتأوه بقوة ثم ينهض متجها إلى دورة المياه للاغتسال و لأعداد نفسه للمقابلة المرتقبة...
*****
نترك عصام لحمامه و نتجول بعدستنا في حجرته الصغيرة....حجرة عادية جدا مثل كل الحجرات في بيوت الطبقة دون المتوسطة....و الطبقة دون المتوسطة هي طبقة مستحدثة لا وجود لها في العالم سوى في بلدنا.... هي تلك الطبقة الواقعة بين الطبقة المتوسطة و الطبقة الدنيا... هي تلك الطبقة التي لا تجوع لكنها لا تعرف معنى الشبع.... هي تلك الطبقة التي لا تعرى لكنها لا تعرف جودة الملبس....نعود إلى الحجرة.... في جانب الحجرة سرير خشبي قديم تآكل الخشب عند الأطراف.... هناك دولاب عتيق من ذلك الطراز الذي توضع فوقه المراتب القديمة والملابس البالية و حقائب السفر التي لا تستعمل قط.... يوجد مكتب يبدو عليه الحداثة بعض الشئ...على المكتب لفافة بها بقايا طعام و كوب من الشاي....على المكتب أيضا يوجد تقويم لم تنزع منه ورقة واحدة منذ شهرين....على الحائط نرى العديد من الملصقات....نجد ملصقا لعمرو خالد مجاورا لملصق لبريتني سبيرز.....ملصقا لجيفارا و إلى جواره ملصقا لهتلر....ملصقا به بعض الأدعية و آخر به كلمات لأغنية رومانسية.... باختصار حائط يحمل أعتى معاني التناقض و التضاد...أنى له أن يحب كلام عمرو خالد و يتقرب به إلى الله و في نفس الوقت يشاهد إباحية و ابتذال الأخت بريتني....و أنى له أن يستمتع بالأدعية الإيمانية و في ذات الوقت يعشق الأغاني.... و كيف له أن يحب جيفارا و يعجب بنضاله في سبيل الاستقلال و حرية الأمم و في نفس اللحظة يعجب بهتلر و فلسفته في الاستعمار و تقييد الحريات....رمز للتناقض الذي يعيشه شبابنا المغيب....نعود بعدستنا لعصام الذي يدخل الغرفة الآن و هو يجفف نفسه بالمنشفة...يفتح الدولاب و يخرج الحلة الرمادية الوحيدة التي يمتلكها و لا يرتديها سوى لتلك المقابلات....يرتدي الحلة و يصفف شعره بعناية و يتعطر بذلك العطر الفخم الذي أهداه له خاله العامل بالخليج و الذي يحتفظ به خصيصا لتلك المناسبات....يقف أمام المرآة ليتأكد من أناقته... فجأة يرن جرس هاتفه الشخصي...كان المتصل صديقه محمود...سأله محمود عن موعد المقابلة لتلك الشركة لكن عصاما أنكر...و أخره أنه لا يعلم موعد المقابلة و أنه بالتالي لن يذهب إلى أي مكان و أنهى المكالمة....كذب عصام على صديقه الصدوق.... كان يرغب بشدة في تلك الوظيفة و يأبى أن ينازعه أحد عليها فقرر أن يذهب وحده و يجازف بتلك الصداقة...نعم فالوظيفة بالنسبة له أهم....الصداقة تموت و الوظيفة تبقى....
*****
في الشارع اتخذ عصام قراره بأن يحافظ على تلك الأناقة بما يملك من جنيهات قليلة فقرر أن يتنازل و يضحي ويستقل سيارة أجرة بدل الحافلة العامة....في الطريق شرع يردد الأدعية و الآيات القرآنية عسى الله يوفقه في تلك المرة...من أجل أمه و أخوته و من أجل مساعدة أبيه....
*****
لم يكن مقر الشركة مزدحما كما تصور...لم يتقدم للوظيفة سوى أربعة غيره....حمد الله في سره أن المنافسة لن تكون شرسة و رجى الله ألا تتطلب تلك الوظيفة شهادة خبرة فهو لم يعمل قبل ذلك ولا يمتلك شهادات خبرة سابقة.... جلس عصام يتنظر دوره .... وجد أن هاتفه يرن في إلحاح...كان محمود هو المتصل....لم يرد عصام و ترك الهاتف يرن لأكثر من خمس مرات حتى مل محمود من المحاولة.... جاء دور عصام و في المقابلة بدى له أن الممتحن و هو مدير الشركة لم يكن مقتنعا به تماما خاصة بعد أن رأى سيرته الشخصية المتواضعة ((c.v))....شعر عصام أن المدير لا يهتم بما يقوله و أحس بالرجل ينتظر نهاية المقابلة بفارغ الصبر....علم أنه أخفق كالعادة....لكن المدير فاجأه قائلا في برود:-"مبروك يا أستاذ...لقد نجحت...نحن في الأصل نحتاج خمسة موظفين و لما لم يأتي سوى خمستكم فقررنا تعيينكم جميعا....ستمضون العقود الآن لتدخلوا البرنامج التدريبي الوظيفي من الغد"...لم يصدق عصام أذنيه...هو أخيرا نجح...بل سيوقع العقد الآن....سعادة بالغة لا يمكنه وصفها.... و عند توقيع العقد لم يهتم كثيرا ببنوده...نعم ستكون الوظيفة في سوهاج لكن ما المشكلة..بلد مثل كل بلاد الله....مرتب الخمسمائة جنيه لم يكن بالسيئ...أمر مقبول جدا كبداية خاصة مع وعود المدير بالزيادات.... الشرط الجزائي بألا يترك الشركة إلا بعد مرور عام كامل على استلام الوظيفة و إلا فليدفع مبلغ عشرة الآف جنيه....لم يهتم بهذا الشرط كثيرا ...نعم هو لا يملك مثل هذا المبلغ و لا يقدر أبدا على دفعه...لكن من قال أنه سيرحل عن تلك الشركة....سيعمل بها طوال عمره....أنها أول من منحه فرصة عمل حقيقية....وقع عصام العقد و خرج من الشركة يكاد يطير فرحا...
*****
خرج من الشركة وهو يفكر في رد فعل أهله و كيف ستكون فرحتهم.... بالنسبة لمحمود سيقنعه أنها وظيفة تلقاها عن طريق بعض المعارف و سيحافظ على صداقتهم...رن الهاتف مرة أخرى...كان محمود هو المتصل...قرر أن يرد و يخبر صديقه بهذا الخبر السعيد...مجرد أن فتح الهاتف و لم يقل سوى ((ألو))...سمع محمود يقول له في انفعال سعيد:-" عصام...لماذا لم ترد....اتصلت بك كثيرا....لا عليك...لدي لك مفاجأة رائعة....استطاع أبي بعلاقاته أن يوفر لنا وظيفتين رائعتين في شركة رائعة....العمل في القاهرة و المرتب ثلاثة الآف جنيه.... يجب أن تجهز أوراقك لأن آخر موعد للاستلام بعد أسبوع و إلا ضاعت الفرصة و طار العصفور من العش...مفاجأة رائعة...أليس كذلك...هيه..عصام لماذا لاترد....عصام...عصاااام"